الرئيسية / أخر المستجدات / (كورونا) وهشاشة قيم العصر

(كورونا) وهشاشة قيم العصر

د محمد علي فخرو/

يحتاج عالمنا، بين الحين والآخر، إلى هزّات وأزمات ليعرف حقيقته الهشّة المليئة بالعلل الكثيرة المتضاربة التى أوصلته إليها القيم والممارسات النيولبرالية العولمية. وتُظهر تلك الهزات والأزمات كم تراجعت الإنسانية عند بعض البشر وصعدت الحيوانية المتوحّشة البدائية عند بعضهم الآخر.

من ذلك المنطلق يمكن تفسير السلوكيات والتعاملات الحقيرة التى مارسها البعض تجاه محنة وباء فيروس ـ كورونا التى حلّت بعالمنا الحالى. ذلك أن تلك السلوكيات والتعاملات ما كان لها أن تظهر وتعلن عن نفسها وتنتشر لو لم يكن عالمنا مهيّأ لها ولديه قابلية الأخذ بها.

إن فضيحة عصرنا الأخلاقية تمثلت فى أنه بدلا من التعاطف مع البلدان والشعوب التى انتشر فيها مرض الكورونا والشعور بالحزن والأسى تجاه موتى تلك البلدان الذين قضوا من جرَّاء ذلك المرض، وهو التصّرف الطبيعى الذى يجب أن يطبع علاقات الشعوب مع بعضها البعض إبّان المحن والكوارث.. بدلا من ذلك أقحم البعض فى ذلك المشهد المأساوى قضايا الصّراعات السياسية والمنافسات التجارية والعصبيات العرقية، وأشغلوا العالم بهلوسات خيالية أسطورية.

نستحضر هنا بعض الأمثلة الدّالة على ما نقول: أولا، البعض أظهر شماتة دنيئة بالصين، واعتبر أن مصابها مرحّب به، إذ إنه سيقود إلى إيقاف نموّها الاقتصادى ويخرجها من حلبة التنافس الاقتصادى العالمى، وهو ما سعت إليه جهات كثيرة. أما البعض الآخر فسخر هازئا بالعادات والسلوكيات الصينية الذين يدّعون بأنها متعايشة مع القذارة فى المسكن والأكل والشّراب، ومع تبنّى حيوانات قابلة لحمل جراثيم شتّى أنواع الأمراض المميتة. وفجأة أصبحت الصين عند هؤلاء، والتى كانت لعقود من الزّمن مثار إعجاب العالم لنموّها الاقتصادى الهائل السّريع ولتقدمها العلمى والتكنولوجى المتعاظم، أصبحت مثار الاحتقار والازدراء، ومصدر كل الرذائل الثقافية والاجتماعية.

فى بعض بقاع الأرض أقحمت الخلافات المذهبية فيما بين السنة والشيعة فى الكثير من الكتابات والمنابر الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعى. فالبعض من هؤلاء اعتبر انتشار الكورونا فى إيران عقابا من الله لما يعتبرونه ممارسات مستهجنة من قبل الشيعة إبّان مراسم عاشوراء. وارتفعت نبرة الكراهية المجنونة عند البعض الآخر ليطالبوا حكوماتهم بعدم السماح لرجوع مواطنيهم من إيران، وبالتالى إبقاؤهم يواجهون إمكانية انتقال فيروس المرض إليهم وإلى عائلاتهم.

ودخلت السياسة من الباب الواسع، فاشترطت بعض الدول تقديم المساعدات الطبية لإيران نظير قبولها بإعادة المفاوضات حول برنامجها النووى والباليستى. وتداول العالم بشدة الاتهامات التى رأت فى الأمر كله حربا جرثومية للخلاص من شعوب وأعراق بذاتها.

وأضاف بعضهم الأساطير وقصص العلم الخيالى ليتداول الناس ما تنبّأ به كتاب «عيون الظلام»، المنشور عام 1981 فى أمريكا، من وجود مختبر بقرب مدينة ووهان الصينية لتصنيع أنواع جديدة من الجراثيم والفيروسات سيكون مختبرا ينطلق منه وباء فيروس الكورونا عام 2020. وبالطبع سرد البعض الآخر قصصا خيالية مضحكة أخرى.

وأخيرا كانت التأثيرات على البورصات العالمية والكثير من الشركات الصناعية الدولية وشركات الطيران وأسعار البترول كبيرة، وكارثية فى بعض الأحيان. وهنا أيضا لعبت الشائعات والحملات الإعلامية المبرمجة أدوارها الترويعية والتنافسية.

وهكذا، بدأ المشهد موضوعا طبيا بحتا، رأى العالم مثله من قبل عشرات المرات وخرج منه باحترازات طبية، لينتهى بأن يصبح موضوعا عولميا معقدا ممتزجا بالسياسة والاقتصاد والأديان وجنون الصراعات العرقية وعجز الحكومات إلخ..

فالمبدأ العولمى بإعلاء شأن التنافس واجتثاث الآخر فى الاقتصاد، دون الالتزام بقيم العدالة والتعايش المتسامح، لعب دوره. ومبدأ إضعاف دور الدولة فى بناء خدمات اجتماعية معقولة، ومنها الخدمات الصحية، أبرز قلة حيلة بعض الحكومات أمام هذا المرض. ومبدأ ارتباط المداولات المالية العالمية بالتكهنات والمخاوف المؤقّتة والإشاعات الإعلامية وجد نفسه فى معمعة صعود وهبوط انتشار فيروس الكورونا فى بقاع العالم. وغياب الضوابط القانونية والقيمية والتنظيمية الصارمة فى ساحة التواصل الاجتماعى المحلى والعالمى سمح لجنون البعض بادخال كل عبث جاهل وطفولى فى ساحة مرض الكورونا.

من هنا، ثبت بصورة قاطعة كم أن عالمنا المعاصر يحتاج إلى أن يعاود تقييم الأسس والممارسات والقيم الأخلاقية التى تقوم عليها الحياة المعاصرة. فإذا كان العالم قد وجد نفسه فى حيص وبيص أمام فيروسة طبيعية جديدة، محدودة الانتشار إلى حدّ ما، فما الذى سيفعله فى المستقبل أمام إمكانيات قيام حروب بيولوجية أو كيميائية أو نووية ستبدأها قيادات بعض الدول المجنونة أو تنادى بها بعض الحراكات الشعبوية العنصرية المتطرفة؟

هذا العالم يحتاج إلى تحليلات عميقة ونقد موضوعى صادق صريح قبل أن يقود نفسه إلى الانتحار أو الدمار.