الرئيسية / أخر المستجدات / من أجل ثورة ثقافية

من أجل ثورة ثقافية

في ظلال الأزمة التي يجتازها العالم بسبب انتشار وباء (كورونا كوفيد 19) انكشفت العديد من السلوكيات البشرية التي تكون في الظروف العادية خفية وغير معلنة أو لا يثير ظهورها الكثير من الاهتمام، وتتمثل بصفة خاصة في الأنانية الفردية  والمغالاة في حب الذات على حساب ما يهم الآخرين أو ما يتعلق بالصالح العام، ولا يتعلق هذا السلوك فقط بأفراد داخل مجتمع ما وإنما أيضا بسلوك بعض الدول داخل المجتمع الدولي حيث تطغى المصلحة المادية الخاصة ونزعة الهيمنة دون أي اعتبار للقيم الإنسانية، ويصل الأمر أحيانا لانتهاك المواثيق الدولية التي تتوخى ضمان شروط العيش المشترك على كوكب الأرض وحماية حقوق الإنسان بقطع النظر عن انتمائه الجغرافي وجنسيته ومعتقداته وتوجهاته وغير ذلك مما يختلف فيه البشر.

ولحسن الحظ فإن السلوك الموغل في الأنانية والفردانية ليس عاما سواء على مستوى مجتمع الأفراد أو المجتمع الدولي لأنه مهما كان منتشرا أو طاغيا فهو لا يصل إلى حد إلغاء أو التهميش الكلي للسلوكيات المتشبعة أو المتأثرة بالقيم الإنسانية وخاصة في مجال التضامن والتآزر في مواجهة الكوارث والأزمات والأوبئة التي لا تنحصر آثارها على فئة دون أخرى وإنما تهدد الجميع.

وفي بلادنا المغرب أبان دخول فيروس (كوفيد 19) القاتل إلى التراب الوطني عن روح المسؤولية التي تتحلى بها السلطات المختصة والجدية في مواجهة خطر الوباء على الساكنة، وإذا كان يلاحظ في الظروف العادية بعض التقصير أو التهاون هنا أو هناك فإن الوعي بخطورة انتشار الفيروس أضفى طابع الحزم والصرامة في التدابير الوقائية المتخذة وفرض تعبئة وطنية جدية في كل القطاعات العمومية والخاصة المعنية وفي صفوف مختلف الفئات الشعبية، وأضحى السلوك العام الواضح للعيان هو الانخراط الجماعي في مواجهة خطر يهدد الجميع.

غير أن التعبئة الجماعية المعبر عنها والتي تشكل الطابع البارز في هذه المرحلة لا يعني أن الجميع يتصرف بالشكل المناسب والمفيد للمساهمة الإيجابية في التغلب على الأزمة حيث يوجد ولو بشكل محدود بعض الأفراد الذين يستغلون الأزمة للاغتاء والإثراء بطرق غير مشروعة عن طريق الاحتكار أو الزيادة في الأسعار أو غير ذلك من الممارسات والسلوكيات غير الأخلاقية والضاربة لعرض الحائط بالقيم المجتمعية والإنسانية، وهذه فئة تصل بها أنانيتها المفرطة إلى  قصد وتعمد الإضرار بالآخرين مما يطاله القانون كوسيلة للردع الفوري.

ويلاحظ أن البعض الآخر وإن كان لا يحمل نية الإضرار بالغير فهو لا يتعامل مع الوضع بالجدية اللازمة أو يستهين بما يجري أو لا يتقيد بالتعليمات الصادرة عن السلطات المختصة ولا يقبل الانضباط للتدابير المتخذة حفظا للأمن الصحي أو يخلق جدالات لا موجب لها في الظرفية الراهنة، مما يثير حالات نشاز في ظروف الأزمة التي يُفترض أن تسودها تعبئة عامة في توجه متكامل ومنسجم، وكل اختلال في هذا الشأن يطرح مشكل التفاوت في مستوى الوعي الذي قد يغيب أو يضعف حسب أنماط التربية الأسرية والمدرسية وظروف التنشئة الاجتماعية، ويطرح من جهة ثانية استمرار ظاهرة الأمية وما يترتب عنها من حالات الجهل أو القصور الفكري أو ضيق الأفق وسوء التقدير.

وسواء تعلق الأمر بالفئة ذات النزوع الجرمي أو التي تتصرف عن قلة وعي أو جهل فإن التقويم الشامل ليس أمرا هينا أو بسيطا ولا يمكن معالجته فقط بالوعظ وحملات التوعية المحدودة في الزمن ومن حيث الفئات المستهدفة وإنما يحتاج إلى ثورة ثقافية تشمل جيلا أو أجيالا وترتكز أساسا على تغيير شامل في المنظومة التربوية والتعليمية بإحداث مدرسة وطنية عمومية تستوعب كل أبناء الشعب كحق أولي وأساسي يضمن تكافؤ الفرص للجميع دون أي ميز وخلق أجيال ذات مرجعية ثقافية وطنية منسجمة ومشبعة بقيم المواطنة ومنفتحة على نتاج الفكر الإنساني وعلى مختلف مجالات المعرفة كبديل لأنواع التعليم الذي يشمل مدارس أجنبية يتهافت عليها أبناء الفئات الميسورة ومدارس خاصة تتباين مستوياتها التربوية والتعليمية ويقبل عليها أبناء الطبقات المتوسطة ومدارس عمومية لا تستوعب كل أبناء باقي الفئات، ومن نتائج هذا الوضع الهش والمتذبذب: وجود هامش لنمو آفة الأمية والجهل، وتكريس الطبقية والميز، وخلق أجيال تحمل ثقافات ومفاهيم متباينة ومتعارضة أحيانا وتحمل في طياتها بذور الصراع والصدام بدل التفاهم والتساكن والتعايش.

وإلى جانب المدرسة الوطنية التي تضمن التكافؤ وتضع الأسس المتينة للوحدة والتلاحم والتضامن في إطار المواطنة البناءة فإن الثورة الثقافية المنشودة لا تكتمل عوامل نجاحها إلا بنشر وتعميم الفكر المتنور والفنون الراقية والتربية على قيم الجمال والارتقاء بمستوى الذوق ونبذ الرداءة وخلق الظروف المناسبة للابتكار والإبداع وفتح آفاق التطور والارتقاء المتواصل نحو الأفضل، وإذا كان على الدولة بمختلف مؤسساتها أن تضطلع بدور رئيس في هذا المجال فإن المسؤولية تتقاسمها كذلك وسائل الإعلام والأحزاب السياسية والهيئات النقابية والمجتمع المدني، مع ضرورة وجود إرادة سياسية حقيقية محفزة لكل الأطراف وميسرة لطريق التغيير نحو مجتمع جديد متماسك ومتضامن ومتقدم.