الرئيسية / أخر المستجدات / أي تغيير ينتظر العالم بعد جائحة (كورونا)؟

أي تغيير ينتظر العالم بعد جائحة (كورونا)؟

الصراع على مناطق النفوذ في العالم خلال فترة الحرب الباردة وبعدها هو صراع بين مصالح متعارضة تؤطره قيم وثقافات متباينة، وقد عرف التاريخ المعاصر وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط جدار برلين في نهاية ثمانينات القرن الماضي ترسيخا متزايدا لما يسمى النيوليبرالية التي تغولت في ظل ما عُرف بالنظام العالمي الجديد، وتزايدت هيمنة قوى الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.

ومرت أحداث كثيرة في عالمنا المعاصر أبانت أن السياسة الخارجية الأمريكية تسعى كقوة عظمى لبسط الهيمنة السياسية والاقتصادية على العالم عن طريق الحروب والتدخل المباشر (أفغانستان والعراق) ونشر ما يسمى الفوضى الخلاقة (منطقة الشرق العربي) والدعم الكامل واللامشروط للكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين في انتهاك صارخ لكل القيم الإنسانية وخرق حتى للحد الأدنى المتوافق عليه في المنتظم الدولي أو ما يسمى بالشرعية الدولية.

وبعد أن كانت السياسة الخارجية الأمريكية تتخذ بعض الذرائع والأساليب الخاصة للتغطية على مواقف غير إنسانية تجاه شعوب المناطق التي تستهدفها بدأت بعض القرارات والتصاريح الصادرة عن الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) تكشف بشكل أوضح أن الإدارة الأمريكية مجردة من أي قيم ولا يهمها سوى المصالح الخاصة التي تتركز في ترسيخ وتقوية هيمنة القطبية الأحادية لأمريكا في العالم دون اكتراث بما تُحدثه سياستها من اختلال أو إضرار بالمصالح الحيوية وحياة باقي شعوب العالم بمن فيهم شعوب الدول الحليفة لها.

وحينما انتشر فيروس (كورونا- كوفيد 19) في معظم بلاد العالم بدأ ينكشف ضعف وهشاشة النظام الأمريكي داخليا حيث تم توجيه انتقادات لاذعة لطريقة تعامل إدارة ترامب مع الأزمة، وتبين أن قطاعيها العام والخاص غير مستعدين بما يكفي للتصدي الناجع في مواجهة انتشار الفيروس وغياب الوسائل الكافية للعناية بالمصابين، وخارجيا بدا واضحا تخلي الولايات المتحدة الأمريكية عن مسؤولياتها كقوة عظمى عالمية في تقديم المساعدة على الأقل لبعض حلفائها، وانكشف بوضوح أيضا التجرد الأمريكي من أي قيم إنسانية بعدم الاستجابة لرفع العقوبات الاقتصادية التي تفرضها على بعض الدول المتضررة مثل إيران؛ وكأن الولايات المتحدة لا تدرك بأن تفشي الوباء يهدد البشرية ككل.

وفي مقابل ارتباك في مواجهة (كورونا) وضعف موقفها على المستويين الداخلي والخارجي برزت الصين كقوة عظمى في العالم من خلال مواجهتها الحازمة والناجعة للحد من انتشار الفيروس على الصعيد الداخلي، ومبادرتها بتقديم المساعدات الطبية لعدد من الدول ومنها المحسوبة على المعسكر الغربي مثل إيطاليا، وشاهد العالم إنزال علم الاتحاد الأوربي ورفع العلم الصيني في المنطقة الأكثر تضررا في إيطاليا، كما شوهد رئيس دولة الصرب يقبل العلم الصيني عند استقباله للمساعدات القادمة إلى بلاده من الصين.

إن الطريقة التي تعاملت بها الصين مع جائحة (كورونا) داخليا وخارجيا جعلتها محل تقدير وتثمين لأنها حملت رسائل حول قوة الصين ومسعاها في إعادة الاعتبار لقيم التضامن الإنساني في مواجهة خطر يهدد البشرية دون تمييز بين دول قوية وأخرى ضعيفة.

ولا شك أن الآثار التي سيخلفها الانتشار الواسع لفيروس (كورونا) على المستوى العالمي لن تنحصر تداعياته على الصحة العامة وخسائر في الأرواح وإنما ستمتد إلى كل مناحي الحياة مما سيؤدي إلى تحول في النظام الدولي كما جاء في خطاب للمستشارة الألمانية (أنجيلا ميركل) وهي تتحدث عن الوباء القاتل، ويعني ذلك أن معيار الحسم في إعادة تشكيل النظام العالمي سيكون مرتبطا بمدى امتلاك العلم والمعرفة والقدرة على مواجهة الكوارث التي تهدد حياة الإنسان على كوكب الأرض، ومدى قدرات الحكومات على إدارة الأزمات مما يمكن أن يغير الكثير من المفاهيم ويعيد النظر في عديد من المسلمات.

ولا شك أن تدابير الحجر الصحي التي تفرضها بشكل متفاوت حكومات مختلف دول العالم سيكون لها أثر كبير على اقتصاد كل دولة وعلى الاقتصاد العالمي، وتزداد الآثار السلبية بطول أمد الحجر حيث تتعطل أو تتباطأ عجلة الإنتاج ووتيرة الدورة الاقتصادية وفي هذا الصدد تجد كل دولة نفسها أمام خيارين إما التشدد في الحجر الصحي حماية للأرواح رغم الأضرار الجسيمة التي تلحق بالاقتصاد الوطني والحياة الاجتماعية، أو تعتمد المرونة في تدابير الوقاية مما يهدد بخسائر فادحة في الأرواح، ومن الصعوبة بمكان التوفيق بين الاختيارين مما يتطلب حكامة جد متبصرة ولا تقبل الخطأ، وفي جميع الأحوال فإن آثار انتشار الوباء ستكون كارثية وستجعل العالم في صورة مغايرة لما قبل هذا الوباء الفتاك.

وإذا كان التغيير قادم لا محالة فإنه لا يمكن التنبؤ بأي معالم واضحة ودقيقة لمآل الأوضاع على مستوى كل دولة وعلى الصعيد الدولي، ويبقى التساؤل إلى أي حد يمكن أن تتغير موازين القوى؟ وهل تؤدي جائحة كورونا لإعادة الاعتبار لقيم التضامن الإنساني في نظام عالمي يحد من النزوعات الأنانية للدول التي تصنف في خانة القوى العظمى؟ وهل تتراجع قيم الليبرالية المتوحشة لفائدة القيم الإنسانية النبيلة؟ وهل ستتعظ الدول وخاصة منها المتخلفة فيما يخص ترتيب الأولويات وإعطاء المكانة المناسبة في اهتماماتها للصحة والتعليم والبحث العلمي وتنمية القدرات الذاتية لمواجهة الأوبئة والكوارث..؟ وغير ذلك من التساؤلات التي ستجيب عنها السياسات والممارسات بعد أن تضع حرب (كورونا) أوزارها ويتم تقييم ما ستخلفه من آثار.

الرباط 25 مارس 2020