الرئيسية / أخر المستجدات / أمريكا والعالم في مواجهة العنصرية

أمريكا والعالم في مواجهة العنصرية

د عبد الإله بلقزيز/

منذ بدأت الاحتجاجات الشعبية العارمة في الولايات المتحدة الأمريكية، في الأسبوع الأخير من شهر مايو/أيار 2020؛ ومنذ اتسعت رقعتها فشملت معظم الولايات والمدن وارتفعت حدتها لتتحول إلى انتفاضة شعبية، ازدهر تعريف لهذه الانتفاضة- في الكتابات الصحفية والتحليلات الإعلامية وافتتاحيات كبرى الصحف ولدى كتاب الأعمدة، في أمريكا وفي العالم كله- بوصفها انتفاضة شعبية ضد سياسات دونالد ترامب وإدارته. وبنى كثيرون على هذا التعريف قراءاتهم لبرنامج التظاهرات الاحتجاجية بما هو البرنامج المشدود إلى هدف مركزي، هو حمل الرئيس ترامب على الرحيل. وإذا كان ذلك أمراً متعذراً، فاستنزاف قواه وقوى إدارته وتأليب الرأي العام ضده، قصد إفقاره من كل شرعية ومن أي مورد من موارد القوة المعنوية لإلحاق الهزيمة به في الانتخابات الرئاسية القادمة بعد أشهر خمسة. هكذا يكون هدف إخراجه من موقعه الرئاسي قد تحقق إما من طريق الضغط والشارع المنتفض أو من طريق المؤسسات الدستورية.

لا يُغفِل التعريف هذا أهدافاً مطلبية أخرى من الانتفاضة من قبيل: إقرار العدالة، إعادة بناء جهاز الشرطة وتطبيق القوانين على رجالها وغير تلك من المطالب. ولكنه، على الأقل، تعريف يعترف فيه أصحابه أن الانتفاضة أصبحت سياسية، أي ذات أهداف، ولم تعد مجرد احتجاجات غاضبة على جريمة بشعة ارتُكِبت في حق مواطن أسود أزهقت روحه؛ وأنها انتفاضة وطنية شاملة الأمريكيين بمختلف فئاتهم وأصولهم وأعراقهم، وليست انتفاضة مواطنين سود يتعرضون للتمييز والحيف، و بالتالي، فهي ليست سبباً بانقسام الأمريكيين عليها؛ بل عامل وحدة واجتماع وتضامن بينهم جميعاً في مواجهة سياسات ظالمة مطبقة.

على أن تعريف الحركة الاحتجاجية هذه بما هي انتفاضة هادفة إلى حمل ترامب على الرحيل، تعريف غير منصف لها على الإطلاق. إنه يضعها، بكل التضحيات فيها، تحت سقف «الحزب الديمقراطي» المعارض، أولاً؛ ويبرئ، ثانياً، ساحة قسم كبير من الطبقة السياسية الأمريكية من أوزار النظام السياسي الأمريكي، لمجرد أن هذا القسم ليس يحكم في البيت الأبيض (لكنه يوجد في الكونجرس وفي السلطة المحلية في الولايات، ويملك المال والأعمال والإعلام)؛ ثم لأنه تعريف يقدح في انتفاضة رفعت سقف مطالبها إلى أعلى شعار/هدف سياسي ممكن في الولايات المتحدة الأمريكية: إنهاء العنصرية وتجريمها قانونياً.

الشعار هذا ليس برسم الاستخدام ضد ترامب وإدارته ووراءهما «الحزب الجمهوري»، حصراً؛ بل هو ممّا يمكن أن يكون عنوان مواجهة للطبقة السياسية برمتها، وللنظام السياسي برمته. قد يكون دونالد ترامب، بخفته ونزقه، قد أجج المشاعر العنصرية في نفوس قسم كبير من البِِيض (من جمهوره) ومن رجال الشرطة، ولكنه لم يكن مسؤولاً عن تصنيع العنصرية في أمريكا؛ هذه التي يعود تاريخها إلى ما قبل ميلاده، والتي لم تُفلح قرارات إلغائها قانونياً في البلاد، بعد انتفاضة مارتن لوثر كينغ وحركة الحقوق المدنية، في سنوات الستينات من القرن الماضي، في إلغائها من النفوس ومن الثقافة الجمعية، وخاصة في بيئات طبقة البيض السياسية.

ما من شك في أن رحيل ترامب عن السلطة سيكون أمراً جيداً لمعظم الأمريكيين، كما لمعظم العالم، لكن هل ستكون الحال أفضل إن انتُخب جو بايدن رئيساً؟ لنتذكر، نحن العرب على الأقل، أن بايدن هذا كان من فرسان غزو العراق، في عام 2003، وأنه صاحب مشروع دافع عنه الكونجرس، في عام 2004، لتقسيم العراق إلى دويلات ثلاث: «سنية» و«شيعية» وكردية! وهو، إلى ذلك محافظ من المحافظين في «الحزب الديمقراطي» يشبه أن يكون جمهورياً أو رديفاً لترامب، حتى أن كثيراً من «الديمقراطيين» يرون فيه مرشحاً غير لائق بالحزب، ولا يقدم له فرصة للنجاح.

إن المفاضلة بين جو بايدن ودونالد ترامب لعبة سياسية سخيفة سخافة المفاضلة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي. وهي تذكرني بمفاضلة نظير كان يجريها بعض عرب التسوية بين «حزب العمل» و«كتلة ليكود» في الكيان الصهيوني. وعندي، في الحالتين، أنه ليس بين القنافد أمْلس.

أنسى وباء العنصرية الناس في العالم وباء كورونا، فطفق عشرات الملايين يحتشدون في مئات مدن العالم للاحتجاج على وباء ليس له لقاح سياسي؛ بل دواؤه التربية والتثقيف على القيم الإنسانية.

[email protected]