الرئيسية / أخر المستجدات / جسد في زمن الجائحة

جسد في زمن الجائحة

فريدة بوفتاس/

ونحن نعيش تجربة الجائحة منذ شهور خلت ، تجدنا تحت رحمتها التي أحكمتها علينا من كل الجوانب ، حتى لإنها  نجحت في أن تجعلنا نتأمل كل شيئ من حولنا ،وكأننا نراه أو نسمعه …لأول مرة ،لتجدنا نفكر فيه ،ونعيد النظر  فيه أو في ما لحقه من أحكام أو تصورات .
ونحن تحت قبضة فيروس قاتل ،هنا تكون الذات مختلفة عما هي عليه ذي قبل ،هي الآن يسكنها خوف من الآتي ، اي من المجهول ،وطبعا من الموت الذي ربما كان غالبا لا يمارس الشعور به نفس الثقل كما هو الشأن الآن، هذه الذات اهتزت أركانها، مهما بدا عليها الإتزان ، وحتى تلك التي غلب عليها التسليم والإيمان بالقضاء والقدر ، إذ أن غريزة البقاء تفرض سلطتها وقانونها على من لا يملك أية سلطة من نفس الحجم ، سوى إرادة الحياة  .
بالرجوع إلى الثقافات القديمة ،مثلا اليونانية منها ،وبالضبط للفلسفة السقراطية ، وانطلاقا من تمييز بين النفس الشبيهة لما هو إلاهي ،في  حين أن الجسد إنساني ،من هنا قوله بأن النفس  تتعرض للتلوث حين تحل بالجسد الذي هو مسكنها ،وتصيبها الفتنة برغباته ولذاته ، كذلك ذهب تلميذه أفلاطون (محاورة فيدون )  إلى اعتبار  الجسد قبرا للنفس ،التي كانت تعيش فيما مضى صحبة الآلهة ،لكن ،بارتكابها إثما عوقبت بالحلول في الجسد الذي هو بمثابة سجن لها ، هو الذي يغلب عليه الجري وراء إشباع الشهوات ، مما يجعلها تبتعد عن عالم الحقائق( عالم المثل ) ،والذي لا يمكنها أن تدركه إلا إذا خاصمت وقطعت مع الجزئين ( الشهوي ،والغضبي ) المكونيين للنفس الى جانب الجزء العاقل .وهذا لا يتأتى إلى الا للفيلسوف الذي وحده يدرك الحقيقة ،مما يخول له وحده إمكانية ان يكون حاكما على  الجمهورية .
أما الديانة الإسلامية ،فنجدها تقنن جسد المسلم والمسلمة ، انطلاقامن مجموعة من الطقوس، التي تدخل في واجباتهما،أثناء ممارستهما للعبادة أو للمعاملات ،بل حتى أنه قد تم تقنين حركة الجسد  بشكل تنميطي ،له مقاصده التي يحكمها المحرم والمباح، الواجب والمندوب…
بل إن الجسد أيضا تم من خلاله ،أو بالأحرى من خلال ما وضع بصدده من تصورات ،التعبير عن تصنيف طبقي داخل المجتمع ،إذحسب رواية عن عمر بن الخطاب أنه منع أمة ان تضع نقابا لأنها مجرد ليست حرة ،لدرجة أن فعلها ذاك عرضها للضرب .
 وقد أعطي الجسد دلالات حين يتعلق بالحروب والغزوات ، حيث أنه وهو الذي لا يرقى إلى مستوى النفس التي عند مغادرتها له، توعد بالجنة ،
في حالة الا ستشهاد من أجل العقيدة ، ليتطور الأمر، ويصبح عند الجماعات الجهادية ، جسدا انتحاريا ، يسهم من خلاله في الدفاع عن قضية ما ( الجهاد) .
 أما الجسد في المرحلة الويسطية في اوروبا،وخصوصا حين كانت الأوبئةالفتاكة تداهم الناس، نجد الموبوئين ( الجدام ،والجدري) المصابين بالجدام يعيشون في دور مخصصة لهم ،منبودين ،ففي فرنسا مثلا ،كان المصاب ملزما بحمل جرس ، يخبر من خلاله الناس بأنه مصاب، كي يبتعدوا عنه ،كما كان الموبوء يحضر مراسم دفنه …
الجسد هنا لم يعد مثار إعجاب ، بل أصبح بمثابة تهمة يحملها الموبوء ، الذي يتعرض لأبشع أنواع الإقصاء..
هو الجسد ، دائما الذي حددت معايير جماله حسب ما يفرض الواقع المعيش،فإذا كانت في زمن ما، تعتب…
وليصبح الجسد خصوصا جسد المرأة ،موضوعا للعرض ،( كسلعة ) ،يعتمد في ترويج مبيعات ،و سلع…من خلال صور نمطية للمرأة ” الجميلة ” “الراقية”… ( دور الأزياء العالمية كمثال على ذلك ).
أيضا، نجد أن جسد المرأة في الإسلام، خضع لتقسيم وتصنيف جندري ، يرى فيها عورة لا بد من ” سترها ” مخافة الغواية .
 إنها رحلة الجسد الطويلة التي لا تنتهي ، والتي لم يكن من الممكن الإحاطة بكل ما الحق به من تصورات ومواقف …
لنعود ، ونتوقف  عند الجسد في زمن الجائحة ،هذا الجسد الذي أضني صاحبه ،وهو ما يفتأ يواجه خطر الفيروس .
الجسد الذي تم التعامل معه وفق منظورات ثقافية مختلفة ،وحسب قرارات سياسية أيضا طبعها الاختلاف والتعدد حكمتها مصالح وخلفيات …
فبالنسبة للبعض الذي لا يعير قيمة للفكر العلمي ولحقائقه ،معتبرا أن كل ما يحدث هو من صميم القدر ،ظل الجسد غير ذا أهمية ،ولا تم إلاهتمام بضرورة اتباع سلوكيات تحميه من الإصابة ،وهو أمر كان طبيعيالا يناقض بنية الفكر الذي يغلب عليه ماهو غيبي .
الجسد هنا ،عبارة عن أمانة ،في حالة فسادها ( فنائها ) تعود لبارئها .إذن، لم كل هذا السعي المحموم لحمايته من أمر هو مقدر عليه سلفا .
في حين ،هناك من منح جسده كامل العناية ، من منطلق الإيمان بالفكر العلمي القائم على مبدأ السببية ،والذي يربط الأسباب بالمسببات،ويتنبأ ويؤمن بأن الوقاية ضرورة ، لذا أصبح الجسد هنا يتصدر الأولوية، تنظيفه باستمرار ،تعقيمه ، عزله عن أجساد الآخرين ….
أصبحت هناك طقوس جديدة ،هي التي تحكم علا قتنا بأجسادنا ، أصبح هو الأساس، هو ما سوف به نستمر في الوجود أو لا نستمر ، إنه مفتاح البقاء .
لم يعد الآن، هو ذاك الذي يعيق بلوغ العارف والفيلسوف إلى الحقيقة ،لأن الحقيقة المبحوث عنها الآن، هي كيف لنا أن نحفظ بقاءنا من فناء موشك ، وهي حقيقة سيقدمها لنا العلم بعيدا ،عن مخططات “السياسيين الكبار”، وأيضا بعيدا عن ترهات المخالفين للروح العلمية .
لم يعد جسدا يثير لديك فتنة ،ولا إعجابا ،ولا إستيهامات .. ،بل أصبح مجالا لمحو كل ما له علاقة باللليبيدو ،
هو الآن، مجال يفاوض مع الفناء ،من سيخسر المعركة ،ومن سيربحها .
كذلك لم يعد مفكرا فيه كمجال للتحريم ،والمنع والكبث…إذ أن الفيروس لا يميز بين جسد فاضل وآخر مرتكب خطيئة ، سيان هما    ،لا تفاضل بينهما .
كأن الجسد هنا لم يظل ملكا للذات وحدها ،كأنه تحول إلى ملك جماعي ،إذ لا يمكنك أن تخرق القواعد التي وضعت للوقاية ( كمامة ،تعقيم اليدين ،تباعد ) ليس من حقك الامتناع عن ذلك ،فهو يعرضك قانونيا للعقاب ( مخالفة ) ،كما يعرضك للإقصاء، الكل يبتعد عنك لانك قد تكون مصدر أدية ،من هنا كل منا يأخد في اعتباره أن حرية جسده جد محدودة بحدود الاجساد الاخرى، التي لها الحق في التواجد ايضا، لكن ،في احترام للأخرين .    

أصبح الجسد محط اهتمام كل من يعشق الحياة ،ويراوغ الموت،بكل ما أوتي من قوة ،ومن مهارات تنجيه من خلال نجاة الجسد …
أصبحت مهمة شاقة تلك التي على عاتقنا ، ان نحمي ما كان قد اعتبر نجسا  ، سجنا للنفس ،عائقا أمام المعارف ، بهيمي الميول و النوزوعات …، ولم نعد نضعه في مرتبة أدنى من الفكر ،
الذي لم ينسينا كل هذا الانكباب على الجسد ،انه من خلال عطاءاته الكبرى ، وبواسطة قدرات الباحثين في مجال الفكر العلمي،  هو من يخرجنا من هذه الورطة . في تأكيد تام على اننا ذوات تفكر، وتملك أجسادا من واجبنا حمايتها من كل ما قد يعرضها للضياع والفناء .

(عن كشبريس)