الرئيسية / أخر المستجدات / الوحدة بين التاريخ والمصلحة
عبد الإله بلقزيز

الوحدة بين التاريخ والمصلحة

د عبد الإله بلقزيز/

لا يكفي أن يقال إن الوحدة، من حيث المبدأ، حق من حقوق أي أمة من الأمم، وإن العرب بالتالي، يقاسمون سائر أمم العالم هذا الحق: من التي ظفرت به أو من التي لم تظفر بتحقيقه بعد.

لا يكفي هذا؛ لأنه ببساطة حديث في المبدأ، وبالتالي يظل تحقيقه مرتبطاً بإمكانه إمكاناً تاريخياً، لا بد  إذن  من إعادة بناء مفهوم الحق على المسوِّغات التي تُدخِله في دائرة الإمكان التاريخي، وتبرره لدى أوسع جمهور اجتماعي يمكنه أن يسعى إلى خوض غمار تجربة تحويله إلى مشروع للعمل، وإلى هدف أعلى.

ما الذي يُسوِّغ  إذن  مطلب الوحدة العربية أو يخلَع عليه المشروعية لدى من يحملونه في المجتمع العربي، من نخب حاكمة، ومن نخب سياسية وثقافية ومدنية؟

عن هذا السؤال إجابة واضحة في الخطاب القومي العربي التقليدي، الذي يسوغ الوحدة أن العرب كانت أمة موحدة بالإسلام، منذ ابتداء وحدتها بالدعوة، وأن العروبة كانت الرابطة الداخلية التي صهرت مكوناتها  بقوة مفعول اللسان والثقافة والتاريخ والاندماج الاجتماعي  في كيانية جماعية موحدة أزالت الفروق والاختلافات الدينية بين جماعاتها المختلفة، لكن هذه الوحدة الموروثة تعرضت للتفسخ سياسياً بانقسام الدولة في الإسلام إلى دول، ثم تعرضت للتبديد، في الزمن المعاصر، بفعل التجزئة الاستعمارية للوطن العربي وما تولد منها من قيام دول منفصل بعضها عن بعض، ومتمتعة بسيادات معترف بها دولياً.

من البيّن  إذن أن مبنى فكرة الوحدة، في الوعي القومي، هو على مسوغات تاريخية: ثقافية ولغوية واجتماعية موروثة أو منحدرة إلينا من الماضي. لِنَقل، باختصار، إن مبناها على التاريخ والخبرة التاريخية. وليس من شك لدينا في أن الكثير من موارد هذا التاريخ (الثقافة، اللغة..) ما بَرح يمتلك مفعولية معاصرة ومستمرة، وأنه هو الذي ما زال يجمع بين العرب، على تفرق أقطارهم ومَواطنهم الجغرافية وتباين ولاءاتهم، فيخلق لديهم الشعور المشترك بالانتماء إلى وطن كياني (ثقافي ووجداني) واحد هو الوطن العربي: انتماء لا تُلغيه انتماءاتهم الوطنية، كما أنه لا مراء في أنه ظلّ لموروث الموارد الثقافية واللغوية والتاريخية هذه، أثر عظيم الفاعلية في تجارب معظم الأمم الحديثة التي أحرزت نجاحاً في تحقيق مشروعها للتوحيد القومي؛ بل في تمكين ذلك المشروع من وقوده وطاقته الدافعين.

وليس لي، ولا لغيري، الاعتراض على فعل هذه الموارد التاريخية ولا جحود أهميتها في تنمية الوعي بالحاجة إلى الوحدة، ولكن يبدو لي أنها وحدها لا تكفي لاستيلاد الوعي الجمعي بالحاجة إلى الوحدة؛ لأنها بالذات، من عوامل الماضي، ولأن مفعولها نفسي وجداني أكثر من كونه مفعولاً مادياً. وعليه، أميل إلى القول  منذ ربع قرن مضى  إن حاجتنا أمسّ اليوم، إلى بناء تسويغ آخر لفكرة الوحدة يكون مبدأ المصلحة قاعدته الأساس. والمبدأ هذا بمقدار ما هو معاصر ومادي، في الآن عينه، يخاطب جمهوراً اجتماعياً أوسع بكثير من جمهور الفكرة القائمة على التسويغ التاريخي والثقافي؛ بل يمكنه كسب قوى اجتماعية ونخب سياسية واقتصادية وثقافية عدة لا تعنيها  في شيء  فكرة العروبة ولا مشروع تحويلها من حقيقة ثقافية إلى حقيقة سياسية.

ما أشد حاجتنا، بعد تجارب من الإخفاق المرير، إلى إنتاج خطاب سياسي وحدوي عربي جديد، عقلاني في المنطلقات والأدوات، وواقعي في الاستخدام والتصريف يعيد إلى مسألة الوحدة مكانتها كواحدة من الأولويات الاستراتيجية التي ما من تقدم يمكن من دون تحقيقها التحقيقَ الممكن؛ أي الذي تسمح به الظروف والأوضاع الذاتية والمحيطة.

وليس لمثل تلك المكانة أن تُعاد إلا عن طريق الإيمان بمنفعة عملية التوحيد في الآن، وفي المستقبل. حينها، وحينها فقط، يسعنا أن ندرِك عملية الوحدة داخل جدلية الإمكان والامتناع، وأن نقدِر، على الحقيقة؛ أي المداخل إليها يقع في دائرة الإمكان وأيها يمتنع وتنوء بحمله القوى الذاتية، أو تنتصب دون تحقيقه وتيسير أمره الأوضاع والعوامل الموضوعية والخارجية، بما فيها القوى المناوئة لحق العرب في الوحدة.

وما أغنانا عن القول إن إعادة تأسيس فكرة الوحدة على مبدأ المصلحة لا يغير  في شيء  من كونها حقاً لأمة لا غبار عليه، ولا يبتخس من قَدر عوامل التاريخ والثقافة واللسان، ولكنه يفتح أفقاً ظل منسداً لسبب معلوم هو التعبير عن الفكرة الوحدوية تعبيراً أيديولوجياً لردح من الزمن طويل.

[email protected]