الرئيسية / أخر المستجدات / أعطاب السياسة السائدة وضرورة التغيير

أعطاب السياسة السائدة وضرورة التغيير

الحديث في  موضوع السياسة هو حديث ذو شجون في أي بلد محسوب من العالم الثالث أو السائر في طريق النمو أو المتخلف بعبارة أدق وأوضح حيث يضيق فضاء الحريات ويسود الغموض واللبس أحيانا في طبيعة العلاقات بين السلط ودور الأحزاب السياسية والمؤسسات المنتخبة والمعينة وغيرها من الجهات التي يتجلى العمل السياسي من خلال ممارساتها ونظرة المجتمع والرأي العام إلى كل ذلك.

المقصود من كلمة سياسة:

أصل كلمة سياسة كما يقول لسان العرب من السوس بمعنى الرياسة، وإذا رأسوه قيل سوسوه  وأساسوه، وأساس الأمر سياسة قام به، والسياسة هي القيام بأمر بما يصلحه، وفعل ساس يعني سير ونظم، ويسوس، أي يعالج أمورا ما، وعرّفها (ديفيد إيستون) بأنّها “تقسيم الموارد في المجتمع عن طريق السلطة” ويعرفها الواقعيون بأنّها “فن الممكن” وهناك تعاريف عامة تتمحور حول اعتبارها مجموعة الإجراءات والأساليب الخاصة باتخاذ القرارات المتعلقة بتنظيم الحياة في المجتمعات البشرية، وتحديد آليات خلق التوافق بين كافّة التوجّهات السائدة في شتى مناحي الحياة المجتمعية وتشمل أيضاً آليات توزيع الموارد والنفوذ داخل مجتمع أو دولة ما. وطبعا هناك اختلافات قد تكون عميقة في الأنظمة السياسية بين دولة وأخرى حسب دستور كل دولة وطبيعة الحكم فيها.

السياسة ملازمة للحياة داخل المجتمع

وإذا كان علم السياسة مستجدا بين العلوم الحديثة فإنه كفكر قديم قدم تساؤل الإنسان عن المدينة الفاضلة والقانون العادل والنظام المنصف والحاكم الصالح، ولم تخل المجتمعات القديمة من حاكم أو مسير أو رئيس يسوس شؤون الجماعة أو القبيلة أو الدولة؛ وهذا يعني أن السياسة لصيقة وملازمة للحياة داخل أي مجتمع.

وباعتبار أن مصالح الأفراد والطبقات الاجتماعية مختلفة ومتعارضة فإن ما يمكن أن نسميه بالسياسة الرشيدة هي التي تقوم على قواعد يقبلها ويزكيها الجميع وتضمن التكافؤ والتوازن والمساواة أمام قوانين عادلة ومنصفة تحول دون طغيان أو استبداد أو هيمنة طبقة أو طبقات معينة على حساب الآخرين.

وفي المغرب على غرار الكثير من الدول تتجلى السياسة في نشاطات الأحزاب السياسية والانتخابات الدورية للمؤسسات التمثيلية وفي عمل الحكومة وفي وسائل الإعلام ومختلف الفاعلين الذين لهم علاقة بالشأن العام، لكن السؤوال الجوهري الذي يطرح نفسه هو كيف تنظر الفئات العريضة من الشعب وكيف ينظر الرأي العام للممارسات السياسية السائدة؟ وهل تحظى هذه الممارسات برضا أوسع الفئات أم أنها لا ترضي سوى فئة جد محدودة من النافذين والمستفيدين؟

هنا مربط الفرس كما يقال، حيث يلاحظ أن هناك شبه إجماع حول الامتعاض مما آلت إليه الحياة السياسية في المغرب، لا فرق في ذلك بين من كانت لهم علاقة مباشرة أو غير مباشرة بما حصل ويحصل أو الذين كانوا على مسافة مما يجري أو من كانوا ينبهون لممارسات وعوامل الإفساد التي امتدت في الزمن وتراكمت وأصابت العمل السياسي بأعطاب واختلالات وشوائب تركت ومازالت تترك ندوبا وتشوهات عميقة أصبح معها المشهد السياسي يثير الكثير من الاستياء والاشمئزاز والسخرية أحيانا.

عوامل وإشكالات اختلال الحياة السياسية

 والنتائج السلبية التي نحصدها اليوم ترجع لعدة عوامل وإشكاليات متقاطعة ومتداخلة ويمكن الإشارة باختصار شديد لأهمها:

  • تمييع التعددية الحزبية:

لقد كانت هناك منذ إعلان الاستقلال إرادة وطنية لوضع قواعد البناء الديمقراطي وكان بمثابة البذور الأولى قانون الحريات العامة سنة 1958 الذي أقر التعددية الحزبية وحرية التعبير والصحافة وحرية التجمعات، لكن اتجاها معاكسا برزت أنيابه منذ نلك الحين بمناهضة القوى السياسية الوطنية وتقسيمها والحد من جماهيريتها وامتداداتها الشعبية وتشويه صورتها، واختلاق أحزاب يتم تسييرها عن بعد لدعم توجه تحكمي من جهة، وتمييع التعددية الحزبية من جهة ثانية، وتوالت عملية تقسيم واستنساخ الأحزاب على امتداد سنوات وعقود من الزمن، فضلا عن ظاهرة صباغة أشخاص بألوان أحزاب لاستوزارهم باسمها، وتنصيب أشخاص على رأس أحزاب لا علاقة لهم بها ولا بالسياسة أصلا، وهذه الحالات وغيرها من العوامل الأساسية المؤدية لما نعيشه من تشوهات في المشهدين الحزبي والسياسي.

  • التدخل في الشأن الداخلي للأحزاب:

ومما يزيد الوضع تشوها وإفسادا هو التطور الحاصل في السنوات الأخيرة حيث لم يعد الأمر ينحصر في اختلاق الأحزاب الموالية وإنما برزت ظاهرة أخرى أكثر سوءا؛ وهي التدخل في الأحزاب النابعة من المجتمع، إما باختراقها وتوجيهها من الداخل والمس باستقلالية قراراتها، أو بتطويعها وجعلها كالأحزاب التي تسمى إدارية، أو بمحاربتها والتضييق عليها بشكل فج؛ مما يؤدي للمزيد من مسخ العمل الحزبي بصفة خاصة والعمل السياسي بصفة عامة.

  • ترويج وترسيخ ظاهرة “تشابه الأحزاب”:

بعد أن تمكنت مختلف الأحزاب السياسية من الوصول إلى مقاعد الحكومة والمشاركة في تسيير قطاعاتها بدأ يراود الناس شعورا بأن هناك تشابها بين مختلف الأحزاب بحكم أن السياسات المتبعة في الحكومات المتعاقبة لا تتغير في جوهرها، وأن نفس السياسات تعطي نفس النتائج، وإذا كان هذا صحيحا فإن الجانب المغيب هنا هو السؤوال لماذا لا تتغير التوجهات والاختيارات الأساسية في السياسات العمومية سواء كان يسير الحكومة شيوعيون أو اشتراكيون أو ليبراليون أو إسلاميون أو لا منتمون أو خليط من كل ذلك حيث لا تتبلور مرجعيات الأحزاب المتباينة في البرامج الحكومية، والجواب بسيط وهو أن الهامش الذي تشتغل فيه المكونات الحزبية داخل الحكومة لا يتيح لها ذاك وتبقى الاختيارات الكبرى والتوجهات العامة للدولة بدون تغيير. وقد تأكد رسميا أن الحكومات المتعاقبة منذ سنوات كانت تشتغل في إطار تنفيذ “نموذج تنموي” معين، هو الذي تم الإقرار رسميا بأنه وصل إلى الباب المسدود مما يدعو إلى وضع “نموذج تنموي جديد”، وهنا نواجه إشكالية أخرى نشير إليها في النقطة الموالية.

  • تضخم دور التقنوقراط على حساب دور الأحزاب:

إذا كانت الأنظمة الديمقراطية تضع عادة القرارات السياسية بيد السياسيين ويتولى التقنيون دور التنفيذ  فإن المؤشرات التي تستخلص مما يجري هنا تفيد العكس؛ وخير مثال هو تكليف لجنة من التقنوقراطيين بوضع “نموذج تنموي” جديد تقوم الحكومات القادمة بالسهر على تنفيذه وبالتالي فإن الأحزاب التي تتشكل منها الحكومات، أيا كانت مرجعياتها واتجاهاتها، تكون مقيدة بما يحدده ذلك النموذج من أولويات واختيارات الأمر الذي يطرح إشكالية أخرى وهي ما الجدوى من البرامج التي تعرضها الأحزاب أمام الناخبين.

  • تبخيس وتهميش البرامج الحزبية:

كما هو معلوم في الدول الديمقراطية تتنافس الأحزاب السياسية وتجتهد في تقديم أفضل البرامج التي يمكن أن تنال بها رضا وقبول أكبر عدد من الناخبات والناخبين والحزب أو الأحزاب الفائزة تسهر على تطبيق برامجها التي على أساسها نالت ثقة الهيئة الناخبة وهذا التطبيق يعد تنفيذا لالتزاماتها التي في حالة الإخلال بها تفقد ما حظيت به من ثقة.

وعندما تطبق الحكومات في بلادنا سياسات تختلف أو تتعارض أحيانا مع برامج الأحزاب التي تتشكل منها فإن هذا يقلل من أهمية اجتهاد أي حزب ويطرح عبثية العملية الانتخابية وعدم تنفيذ الوعود المقدمة في الحملات الانتخابية مما يؤدي لتراجع الثقة والعزوف عن المشاركة في الانتخابات.

  • نظام انتخابي معيب:

إلى جانب ما تعانيه نسبة غير قليلة ضمن الهيئة الناخبة من أمية وجهل وفقر يسهل شراء الذمم والمناورات التدليسية والغش الانتخابي، فإن النظام الانتخابي المعتمد معيب ولا يساعد على إفراز نخب وأطر من ذوي الكفاءة وإنما يفتح أبوابا واسعة أمام ذوي القدرات المالية والمادية ولو كانوا أميين أو من مستويات تعليمية متدنية، ويلاحظ تهافت أغلب الأحزاب على هذا النوع من المترشحين بدافع هاجس الحصول على أكبر عدد من المقاعد، ومما يزيد المشهد تشوها أن هذه الفئة المحسوبة من “السياسيين” يتميز الكثير من عناصرها بالتنقل بين الأحزاب ورغم أن القانون منع الترحال خلال مدة الولاية فإن الظاهرة لم تنمحي وتسيئ كثيرا للعمل السياسي.

وبالنسبة للمحاصصة لفائدة النساء والشباب فهي فضلا عما تمثله من ريع سياسي في نظر الكثير من المتتبعين والمهتمين، فقد تكون أيضا بمثابة فتيل قابل للاشتعال بسبب ما تعرفه أحيانا من محسوبية وغياب معايير موضوعية، فضلا غن تعدد الطموحات وما يثيره من صراعات داخل التنظيمات الحزبية

  • انحدار مستوى الخطاب السياسي:

أمام تراجع القيم الأخلاقية والوطنية والحضور القوي للعناصر التي تلج عالم السياسة من باب المال أو غيره من الأبواب البعيدة عن المؤهلات والاستحقاق والدافع الوطني، فإنه فضلا عما أصاب اللغة السياسية من عقم وخواء وفقر في المصطلحات والأفكار السياسية؛ فإن بعض الخطابات انحدرت إلى الحضيض الذي يثير الاشمئزاز والاستياء وينعكس ذلك سلبا على المتخيل الشعبي عن السياسيين والعمل السياسي بصفة عامة ويؤدي بالتالي للنفور من الحياة السياسية والعزوف عن المشاركة في الاستحقاقات الوطنية المختلفة.

الحاجة إلى تغيير الصورة المترسبة حول السياسة:

ونستخلص مما تقدم أن هناك حاجة ماسة إلى تغيير الصورة السيئة المترسبة في الأذهان حول السياسة في بلادنا وهو أمر ليس هينا ولا بسيطا ولا يتحقق بين عشية وضحاها ولكنه ممكن وليس مستحيلا ويتوقف على عدد من الخطوات الضرورية ومنها أساسا:

  • الإقرار الجماعي باختلال الوضع السياسي الحالي وبأن هذا الوضع لا يشرف لا الدولة ولا الأحزاب السياسية ولا الشعب المغربي الذي يستحق وضعا تستقيم وتستوي فيه الممارسات السياسية وتتجاوب فيه السياسات العمومية مع رغبات وطموحات الفئات العريضة من المغاربة.
  • ضرورة وجود إرادة سياسية قوية للتغيير في اتجاه إعطاء الاعتبار للعمل السياسي وتخليقه والتمكين من ملامسة دوره وجدواه في الحياة اليومية والمعيشية للمواطنات والمواطنين.
  • إقرار جيل جديد من الإصلاحات السياسية والدستورية في اتجاه الدمقرطة وتوسيع صلاحيات المؤسسات المنبثقة عن صناديق الاقتراع للتمكن من تنفيذ تعهداتها وبرامجها وتضطلع بأدوارها وبلورة إرادة ناخبيها في السياسات العمومية مما يضفي الفعالية والمصداقية على المؤسسات.
  • وضع مقاييس ومعايير وشروط الترشح للمؤسسات التمثيلية ترجح ذوي الكفاءة على ذوي الوسائل غير الشريفة وتضع حدا نهائيا لأمية الأعضاء خاصة بالنسبة للمؤسسة البرلمانية.
  • رفع اليد عن الأحزاب السياسية وضمان حريتها في اجتهاداتها وفي وضع برامجها واستقلالية قراراتها ومواقفها. ولابد من التأكيد هنا بأنه لا مجال لقيام بناء ديمقراطي سليم في غياب أحزاب سياسية قوية ومستقلة تعبر عن واقع المجتمع وعن المصالح المتناقضة داخله وتجتهد وتتنافس بشرف في إعداد وتقديم البرامج الهادفة لتكسير قيود التخلف وفتح باب الأمل أمام الأجيال الصاعدة.
  • احترام الحريات الأساسية كحرية التنظيم وحرية الانتماء وحرية الصحافة وحرية التعبير عن الرأي وحرية انتقاد العمل الحكومي وحرية التظاهر والتجمع والاحتجاج السلمي، ومساواة الجميع أمام القانون.
  • ربط الإصلاح السياسي بتخليق الحياة العامة والمحاربة الفعلية للفساد، ووضع حد لحالات الريع ووسائل الإثراء غير المشروع.
  • إعطاء القدوة الحسنة من لدن كل مسؤول في أي موقع لمن هم تحت إشرافه أو من يوجدون في مراتب أدنى منه في النزاهة والحكامة الجيدة والتدبير الرشيد وتفعيل المبدأ الدستوري المتعلق بربط المسؤولية بالمحاسبة.

وإلى جانب هذه الخطوات التي تندرج فيما هو آني وعاجل فإنه لامناص من إصلاحـات أخرى تعطي ثمارهـا على المدى المتوسط والبعـيد وفي مقدمتهـا ومن أبرزهـا:

  • إصلاح التعليم الذي ينبغي أن يكون معمما وكحق أساسي لكل أبناء الشعب وبذلك يتم إغلاق منبع الأمية بشكل نهائي، وأن يكون وطنيا في مضمونه يشبع الأجيال بقيم الوطنية والمواطنة، وينمي القيم الأخلاقية والإنسانية ويوسع المدارك والمعارف ويسمو بالفكر وينمي الرؤية الانتقادية والقدرة على التقييم والاجتهاد والابتكار ويفتح آفاق الانخراط والاندماج في بناء مغرب جديد يتطور ويتقدم بوتيرة تتناسب مع طاقاته وموارده البشرية والطبيعية والمادية.
  • تخليص الإعلام العمومي من برامج التفاهة والرداءة التي تنشر الانحطاط اللغوي والثقافي وإلهاء الناس عن الاهتمام بالشأن العام، وتشجيع مقابل ذلك، الإبداعات والفنون الجادة والتي تسمو بالذوق والفكر وتفتح آفاق الارتقاء الثقافي والحضاري وتقرب الأذهان من نبل وأهمية العمل السياسي.

إن الأعطاب والتشوهات التي تتخلل المشهد الحزبي والعمل السياسي هي بمثابة العقبة التي تحول دون تجاوز حالة التخلف وتعرقل أي تقدم، وبالتالي فإنه لا مناص من التغيير والإصلاح واستكمال الانتقال إلى الديمقراطية الحقة التي ترتكز على وجود أحزاب قوية ومستقلة، ومؤسسات تتبلور من خلالها الإرادة الشعبية وتستمد مصداقيتها من صلاحياتها وفعاليتها ونتائج أعمالها.

إن أسباب الداء الذي ينخر الجسم السياسي في بلادنا معروفة، والعلاج ممكن، لكنه لا يتحقق بشكل تلقائي وإنما يحتاج إلى الإرادة السياسية القوية، والانخراط الجماعي في تغيير الصورة الكالحة الحالية، بدءا بالنقد الذاتي لكل طرف، وتغيير السلوكيات، والمشاركة الإيجابية بروح وطنية ومواطنة في أوراش الإصلاحات التي من شأنها تحصين البلاد ودعم استقرارها وفتح طريقها نحو التقدم والرقي.

 

عبد القادر العلمي