الرئيسية / أخر المستجدات / تاريخ أوروبا في جرائم الإبادة الجماعية

تاريخ أوروبا في جرائم الإبادة الجماعية

وفاء صندي/
بعد التحاق أمريكا بركب الـ29 دولة، التي من بينها ألمانيا وفرنسا وروسيا والأرجنتين ولبنان وكندا والدنمارك، واعترافها بالمجازر التي حلت بالأرمن على يد السلطنة العثمانية وتركيا الحديثة بين 1915 و1923 بأنها مثلت إبادة جماعية، يبدو ان عام 2021 سيكون عام الاعترافات بالانتهاكات التي شهدها الماضي الاستعماري. فقبل أسبوع، اعترفت برلين، بارتكاب جنودها إبادة جماعية في ناميبيا إبان الاستعمار الألماني نهاية القرن 19. وأشارت باريس إلى مسؤوليتها في الحرب الأهلية برواندا والتطهير العرقي الذي تعرضت له أقلية التوتسي.
فيما يتعلق بتاريخ ألمانيا الاسود، بعد أكثر من مائة عام على استعمارها لناميبيا، البلد الواقع في جنوب غرب إفريقيا، برلين تقر بارتكاب إبادة جماعية بحق شعبي الهيريرو والناما، اعتبرها مؤرخون أول إبادة جماعية في القرن العشرين، واستمرت بعدها مجازر وابادات في سنوات مختلفة من ذات القرن، قتل على إثرها وشرد الملايين. في عام 1904 ثار شعب هيريرو ضد المستوطنين الألمان بعدما حرمهم هؤلاء من أراضيهم وماشيتهم، في تمرد قتل خلاله حوالي مائة مستوطن. وعهدت برلين بمهمة إخماد التمرد إلى الجنرال الألماني “لوثار فون تروثا” الذي أمر بإبادة المتمردين. وبعد سنة واحدة تمرد شعب ناما فلقوا المصير نفسه.
أسفرت هذه المذابح بين عامي 1904 و1908 عن مقتل ما لا يقل عن 60 ألفا من أبناء شعب هيريرو (ويشير مؤرخون الى مقتل 80 ألف شخص من أصل 100 ألف) وحوالي 10 آلاف من أبناء شعب ناما (من أصل 20 ألف). واستخدمت القوات الاستعمارية الألمانية لإخماد هذا التمرد تقنيات إبادة جماعية شملت ارتكاب مذابح جماعية، والنفي إلى الصحراء حيث توفى آلاف الرجال والنساء والأطفال عطشا، وإقامة معسكرات اعتقال أشهرها معسكر “جزيرة القرش”.
كاعتراف وتعويض منها عن هذه المجازر، وبعد مفاوضات استمرت أكثر من خمس سنوات، ستدعم ألمانيا “إعادة الإعمار والتنمية” في مشاريع تتعلق بإصلاحات الأراضي والزراعة والبنية التحتية الزراعية والإمدادات بالمياه والتعليم المهني في ناميبيا، عبر برنامج مالي قيمته 1,1 مليار يورو. وسيتم سداد هذا المبلغ، وفق بنود الاتفاق، على مدى 30 عاما، على أن يستفيد منه في المقام الأول أحفاد هذين الشعبين.
اما فيما يتعلق بمسؤولية فرنسا بشأن المجازر التي ارتكبت في رواندا عام 1994، فقد اعترف الرئيس الفرنسي، الخميس الماضي، من رواندا بمسؤولية بلاده بخصوصها. وفي خطاب ألقاه عند النصب التذكاري لضحايا تلك الإبادة الجماعية البالغ عددهم أكثر من 800 ألف شخص من عرق التوتسي، قال ماكرون إن فرنسا “لم تكن متواطئة” لكنها “فضلت الصمت على النظر في الحقيقة”.
كما هو معروف، عندما كانت راوندا مستعمرة بلجيكية، كانت مقسمة الى مجموعتين اثنيتين: اغلبية الهوتو الذين كانوا يعملون بالزراعة، وأقلية التوتسي الذين تم اختيارهم من قبل الاحتلال البلجيكي لشغل الوظائف الحكومية. بعد نيل الاستقلال، عام 1962، تمكن الهوتو من الاستحواذ على السلطة، ما أدى إلى هروب أكثر من 200 ألف توتسي إلى الدول المجاورة. وفي عام 1994، بدأت عملية الإبادة على يد ميليشيات الهوتو، استعملوا خلالها أدوات زراعية، بما في ذلك المناجل، كوسائل لقتل أفراد أقلية التوتسي فضلا عن المعتدلين من الهوتو. استمرت عمليات القتل لمدة 100 يوم، وأسفرت عن 800 ألف قتيل.
أقرت حكومة رواندا، في تقرير صدر الشهر المنصرم، بأن فرنسا كانت على علم بالتحضير لإبادة جماعية في البلاد، وتتحمل “مسؤولية كبيرة” عن السماح بحدوثها. وهو الشيء الذي لم ينفه تقرير تابع للجنة تحقيق فرنسية معتبرا ان موقفا استعماريا أعمى المسؤولين الفرنسيين، وإن الحكومة الفرنسية تتحمل مسؤولية “كبرى وجسيمة” لعدم توقع المذبحة. وعلى الرغم من ان التقرير أقر بأن فرنسا قدّمت الأسلحة والدعم اللوجستي للحكومة الرواندية التي كانت تمثل الأغلبية من قبيلة الهوتو؛ بل كانت متحالفة معها منذ سنة 1990، وانها سهلت هروب المجرمين من حكومة الهوتو، وقامت بتأمينهم في معسكرات آمنة؛ الا أنه برأها من التواطؤ المباشر في الابادة!
فرنسا غير متهمة بالضلوع في جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في رواندا، هي فقط رعت النظام الذي نفذها ! لذلك هي ترى انها غير مجبرة على الاعتذار أو التعويض، تماما مثلما لم تجد ما يستدعي اعتذارها عن حربها في الجزائر، وتنفيذها في عام 1945، إحدى أبشع الجرائم في العالم، بإعدامها حوالي 45 ألف جزائري خلال يوم واحد، عقب نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرة.
ما حدث في القارة الافريقية ابان مرحلة الاستعمار، من جرائم إبادة ونهب للخيرات وتهريب للأثار، لم يعد في استطاعة أوروبا اخفاؤه او التبرؤ منه. حاولت الدول الأوروبية، خلال قرن من الزمن، تحريف التاريخ معتمدة على أقلام مستعمرين كتبوا واصلوا لغزواتهم، ومعاركهم، فمجدوا “بطولاتهم” و”انتصاراتهم”، بل اعتبروا أن مقاومة الأفارقة لهم، “بربرية وهمجية”، في وقت لم يكتب الأفارقة بعد تاريخهم بأقلامهم، المنغمسة في الدماء. ومع ذلك فان أوروبا لم تعد تستطيع إخفاء جرائمها المروعة التي ستبقى نقطة سوداء في سجلها الانساني. ولا خلاص لها الا بالاعتراف والاعتذار عن جرائمها السابقة والتعويض عنها والمصالحة مع المتضررين منها.