الرئيسية / أخر المستجدات / الديمقراطية المنقوصة
عبد الإله بلقزيز

الديمقراطية المنقوصة

د عبد الإله بلقزيز/

نُظِر إلى ديمقراطيات العهد الأول (في اليونان القديمة) بكثير من الإعجاب. كانت تجربة فريدة، حقاً، في مضمار مشاركة مواطني الدولة في إدارة شؤونهم العامة. زاد من بريق التجربة أن العالم القديم المحيط بإغريقيا لم يكن يعرف من أنظمة الحكم، حينها، سوى نظام الحكم الفردي الاستبدادي والطغياني الذي انتقده سياسيو اليونان وفلاسفتها؛ خاصة أفلاطون وأرسطو. 

ومع ذلك، مع كل ذلك الإعجاب، الذي لم ينقطع، بالديمقراطية اليونانية وريادتها ومرجعيتها في كل التاريخ الديمقراطي، فقد تعرضت للكثير من النقد من الفلاسفة والمفكرين المحدثين. وأكثر ما أغرى بالنقد فيها نخبويتها وضِيق قاعدة المشاركين في الحياة العامة والديمقراطية في اليونان. لقد استثنت منها القسم الأعظم من الجمهور لأنهم ليسوا مواطنين؛ أي غير متفرغين للشؤون العامة، وغير متحررين من قيود الإنتاج أو تأمين المَعيش. هكذا مسّ الإقصاء فئات عريضة من المجتمع مثل النساء والعبيد والحرفيين وسائر العَمَلَةِ في المجتمع، الأمر الذي فرض أن تكون ديمقراطية محدودة وانتقائية.

هذه، أيضاً، من المَعْيوبات التي عَابَها كثيرون على الديمقراطية الغربية الحديثة. وهي عِيبَت عليها على ما شَهِد عليه معنى المواطَنَة فيها من تَوْسعة؛ بحيث شملت المنتمين إلى الدولة والكيان الوطني كافة، وما عاد أحد في حكم منقوص المواطنة أو منزوعها من وجهة نظر الدساتير ومنظومات القوانين الحديثة.

إذا كان يمكن المرء فهم الأسباب التاريخية التي حكمت على ديمقراطية الإغريق بأن تأتي محدودة (حداثةُ عهد الإغريق والعالم بهذا النظام الجديد والفريد؛ استمرار مفاعيل علاقات الإنتاج العبودية؛ نوع تقسيم العمل السائد في المدن اليونانية…)، فما من سبب يبرر تقليص المساحات الاجتماعية للديمقراطية في الغرب، بعد توسيع معنى المواطنة وتعميم منظومة الحقوق السياسية، وبعد تحطيم النظام الرأسمالي لإطار علاقات الإنتاج التقليدية وما يرتبط بها من قيم التمييز بين الفئات والطبقات والهيئات الاجتماعية، ثم بعد اكتساح الحداثة مناحي الحياة العامة والعلاقات الاجتماعية، واتساع نطاق فعْلِ قِيم المساواة وتكافؤ الفرص في المجتمعات الحديثة.

يمكن وصف الديمقراطيات في مجتمعات الغرب بأنها ديمقراطيات منقوصة؛ حيث لا يتطابق فيها معنى الديمقراطية مع معنى المواطَنة؛ هذه التي هي أساسها ومرجعها؛ وحيث الديمقراطية حقّ من الحقوق التي تُرتبها المواطنة. ولقد بَدَا النقصان فيها فادحاً منذ بداية العمل بالنظام الديمقراطي قبل قرون حتى نهاية النصف الأول من القرن العشرين تقريباً. ولم يكن تداركه بتصحيح سياسات المشاركة والتمثيل، في العقود السبعة الأخيرة، ليضع حداً نهائياً له (النقصان)، وإن كان خفف من وطأته إلى حد؛ بل استمرت مفاعيله في عدم تمتيع فئات من المجتمع بعينها – وقع الحَيْفُ- بحقها طويلاً – بالحقوق والفُرص عينها التي تمتعت بها فئات أخرى ما زالت تحظى بالامتياز في التمثيل والمشاركة السياسية وتقلّد أعلى المناصب والمسؤوليات.

نعرف، على التحقيق، أن النساء هن أكثر من وقع حِيف عليه في المجتمع. وهل من حَيْف أعظم هَولاً من أن يُقصى نصف المجتمع من الحق في التمثيل وفي المشاركة السياسية لقرون ممتدة؟ ولم يُعد الاعتبار إلى حقهن المصَادر إلا في أربعينيات القرن الماضي، وإن كان ما أعيد قليل في حقهن وبالنّظر إلى نسبتهن من الديموغرافيا العامة. واليوم لا نكاد نجد برلماناً غربياً – حتى في الدول الأعلى تمثيلاً للنساء في المؤسسات مثل دول أوروبا الشمالية – تتجاوز فيه نسبة التمثيل الثلث. وهي نسبة تهبط إلى ما دون ذلك، بكثير، في دول أوروبا وأمريكا الشمالية! وما ينطبق على التمثيل يسري على الوظائف العليا في الدولة وعلى الحكومات؛ حيث نسبة النساء فيها هزيلة ورمزية.

كما نعرف، على التحقيق، أن السود والملونين والمهاجرين في جملة تلك الفئات التي نزل بها ذلك الحيْف المومأ إليه. ومع أن السود، في أمريكا مثلاً، تحرروا من العبودية منذ عهد أبراهام لنكولن، في ستينات القرن التاسع عشر، إلا أنهم ما تمتعوا بالمواطَنة والحقوق المدنية إلا في ستينات القرن العشرين بعد نجاح حركة الحقوق المدنية، بزعامة مارتن لوثر كينغ، في انتزاع الاعتراف بها. ولكنّ ذلك ظل في حدود رمزية على ما تكشف عن ذلك نسبة حضورهم في مجلسي الكونجرس وفي الإدارة. 

وينطبق ذلك على غيرهم في أوروبا ومؤسساتها. ومرة أخرى كانت ثقافة البِيض العنصرية، السائدة في العالميْن الأوروبي والأمريكي، سبباً وراء هذا التهميش والإقصاء اللذين طالا عشرات الملايين من الأمريكيين والأوروبيين الذين لا ذنب لهم سوى أن بشراتهم سوداء أو ملونة أو هم من أصول مهاجرة.

بهذه الديمقراطية المنقوصة يكشف الغرب عن وجه آخر من وجوه أزمة نظامه السياسي، وأزمة نظام التمثيل فيه على نحوٍ خاص.

[email protected]