الرئيسية / أخر المستجدات / لماذا يتم تجاهل مفهوم التطهير العرقي الذي تعرض له الفلسطينيون؟

لماذا يتم تجاهل مفهوم التطهير العرقي الذي تعرض له الفلسطينيون؟

د خديجة الصبار/

لا شك أن وظيفة التاريخ هي حماية أفعال الإنسان من عبث النسيان، كما أن الرحلة إلى الماضي ضرورية لأنها تفتح الطريق نحو المستقبل، وتظهر لنا كيف مارست إسرائيل التطهير العرقي بطريقة منهجية لاقتلاع الفلسطينيين من جذورهم وترحيلهم من البيوت التي كانت ملكا لهم قبل 1948، بعد مرور ثلاثة أعوام فقط على “الهولوكست”، وإعادة توطينهم لزرع شتات ملفق من الغرب، محذوف منه كل أثر من آثار السكان الأصليين مكانهم، وكيف مُسحت قرى بكاملها من خريطة فلسطين؟.

 يحفر المؤرخ والأكاديمي الإسرائيلي إيلان بابه (Ilan Papee) “[2] – بنظرة المؤرخ الباردة- في واحدة  من أكبر التهجيرات القسرية في التاريخ الحديث: إشكالية التطهير العرقي وقضايا النكبة واللاجئين. ويسرد جزءا كبيرا من تاريخ التطهير العرقي الذي ارتكبته إسرائيل في فلسطين، اعتمادا على الوثائق المحفوظة في الأرشيفات الإسرائيلية والشهادات الشفوية، وتنوع الأساليب التي اتُّبعت في عملية التطهير، ويشمل المناطق واحتلالها منذ احتلال أولى القرى العربية كانون الأول/ ديسمبر 1947 وتدميرها.” وتعزز الوحشية الموصوفة فيها تصديقي للوصف الدقيق الذي، سبق ذكره، للجرائم البشعة التي ارتكبها الجنود الإسرائيليون في الطنطورة والصفصاف وسعسع، والتي أمكن استعادة مجرياتها أساسا بمساعدة الشهادات والتواريخ الشفوية الفلسطينية.” (ص225). اعتماد موشور التطهير العرقي يثير لب الإشكالية وبشاعة ودموية الممارسات والعذاب الجهنمي لمأساة تاريخية وأعمال وحشية وجرائم حرب مورست ضد سكان مدنيين، وما ارتكب من مشاعر الحقد والانتقام المستعرة على خلفية توجيهات عامة من الأعلى. ويكشف عن الظلم التاريخي الذي أوقعته إسرائيل من خلال تطهير فلسطين عرقيا بدءا من 10 آذار/ مارس 1948، وأسئلة حول الأساطير التأسيسية لدولة أقيمت على إيديولوجيا التفوق العرقي. يقول يوسف فايتس رئيس دائرة الاستيطان في الصندوق القومي اليهودي، والقائد الفعلي ل لجنة “الترانسفير” في مقر الوكالة اليهودية في القدس في 10 تموز/ يوليو 1941:”ترحيل العرب أمر حيوي من أجل خلاصنا”،[3] ليخبر الحكومة الإسرائيلية في حزيران/ يونيو 1948 بقوله:” بدأنا عملية التطهير، وإزالة الأنقاض، وتهيئة القرى للزراعة والاستيطان، وبعضها سيصبح حدائق عامة”.[4] ونفذ التطهير بمستويات متصاعدة من القسوة والوحشية. وكان يفتخر وهو، يراقب التدمير الجاري، بمشهد الجرارات وهي تدمر القرى بكاملها لم يحرك فيه أية مشاعر.

فورة العنف وقصص مرعبة

يسرد المؤرخ إيلان بابه صورا مرعبة:” روى فهيم زيدان الذي كان عمره آنذاك اثني عشر عاما، كيف رأى بأم عينيه عائلته تقتل: أخرجونا واحدا تلو الآخر، قتلوا رجلا عجوزا بالرصاص، وعندما بكت إحدي بناته، قتلوها هي أيضا. ثم استدعوا شقيقي محمد وقتلوه أمامنا، وعندما صرخت أمي باكية وهي منحنية فوقه- وبين ذراعيها أختي الرضيعة خضرة- قتلوها هي أيضا. أطلقوا الرصاص أيضا على زيدان نفسه الذي كان موجودا مع الأطفال الذين أوقفوهم في صف أمام الجدران، ورشقوهم بالرصاص قبل أن يغادروا، ” فقط من أجل التسلية” ومن حسن حظه أن جروحه لم تكن مميتة.[5] تستخدم “الهاغاناه” مكبرات الصوت لإصدار أصوات مخيفة لبث الذعر في قلوب السكان، نسخة مكبرة عن اختراق الطائرات المقاتلة جدار الصوت فوق بيروت سنة 1983، وفوق غزة سنة 2005 الذي أدانته منظمات حقوق الإنسان بصفته عملا إجراميا، وكرر الإسرائيليون استخدام المجزرة في نيسان/ أبريل 2002 فيما يتعلق بمجزرة جنين. مشاهد رهيبة في تطهير حيفا من العرب، اعتُمد على بث الرعب في النفوس، وعندما بدأ القصف تدفق الناس إلى الميناء، وفي الميناء يدفع الناس إلى البحر أثناء محاولة الحشود الصعود إلى قوارب الصيد الصغيرة التي ستنقلهم إلى غزة بينما القوات الصهيونية تطلق النار فوق رؤوسهم لتسريع هروبهم:” داس الرجال أصدقاءهم، وداست النساء أطفالهن. وسرعان ما امتلأت القوارب في الميناء بحمولاتها البشرية. وكان الازدحام فيها مخيفا. وانقلب كثير منها وغرق ركابه جميعا.[6] وعندما زارت كولدا مائير حيفا، بعد أيام قليلة من الاستيلاء عليها، وجدت من الصعب أن تكبت إحساسا بالرعب عندما دخلت البيوت حيث كان الطعام المطبوخ مازال على الطاولات والألعاب والكتب التي تركها الأطفال على الأرض، وحيث بدا الأمر وكان الحياة تجمدت في لحظة واحدة؛ جاءت مائير فلسطين من الولايات المتحدة، التي هربت عائلتها إليها إثر المذابح المنظمة في روسيا، وذكرتها المناظر التي شاهدتها ذلك اليوم بأسوأ القصص التي سمعتها من عائلتها عن الوحشية الروسية ضد اليهود قبل عقود. لكن ذلك لم يؤثر– كما يبدو- في عزمها أو عزم زملائها على المضي قدما في التطهير العرقي لفلسطين. تصرف لا ينم عن أي وخز للضمير. وطرد جميع سكان صفد، كل هذا أمام مقاومة عنيدة من جانب الفلسطينيين إلى جانب المتطوعين. سجل بن غوريون في يومياته بتاريخ 5 حزيران/ يونيو 1948:” أخبرني أبرهام حانوخي من كبوتي أيليت هشاحر، أنه نظرا إلى بقاء 100 رجل طاعن في السن فقط في صفد فقد تم طردهم إلى لبنان.” (ص 109).

أجرى” تيدي كاتس” وهو طالب إسرائيلي معظم المقابلات سنة 1999، مع الناجين من مجزرة  قرية الطنطورة، عندما كان يعد أطروحة لنيل شهادة الماجستير في جامعة حيفا، جاء فيها: يروي محمود أبو صالح وكان عمره آنذاك 17 سنة مشاهدة إعدام أب أمام أطفاله. وبقي أبو صالح على صلة بأحد أبنائه الذي فقد عقله عندما رأى أباه يعدم ولم يسترد رشده قط. وإعدام سبعة من أفراد عائلته بالذات، وأثني عشرة شخصا من عائلة أبو جميل تتراوح أعمارهم ما بين 10 و30 سنة، قتلوا رميا بالرصاص أمام عينيه، و 120 يعدمون بسرعة(ص 147) وكان الجنود يراقبون الإعدامات باستمتاع. وعندما انتهت العربدة وتمت الإعدامات أُمر فلسطينيان بحفر قبور جماعية بإشراف مردخاي سكولر، وروى سنة 1999 أنه دفن 230 جثة “وضعتهم واحدا تلو الآخر في القبر.” وعندما شاع خبر المجزرة جردت الجامعة أطروحته من أهليتها بمفعول رجعي، وجره قدامى المحاربين من لواء ألكسندروني إلى المحكمة بتهمة التشهير. (ص 148). وكان الأرفع رتبة بين من أجرى معهم “تيدي كاتس” الحوار “شلومو أمبار” الذي أصبح لاحقا جنرالا في الجيش الإسرائيلي. و جاء في مذكرات أحمد نمر الخطيب، أحد أعيان حيفا شهادة فلسطيني عن الإعدامات السريعة:” لن أنسى ذلك اليوم ما حييت. فقد جمع العدو النساء والأطفال في مكان كومت فيه جثث القتلى{…} فهذه ترى من القتلى بعلها، وتلك ترى أباها، والأخرى تلمح أخاها، فلم يجزعن{…} وجمع اليهود الأحياء من الرجال وأخذوا يذيقونهم الموت جماعات ووحدانا{…} تسمع النساء أصوات طلقات رشاش فيتساءلن عنها فيجيبهن الحارس بأنهم ينتقمون لقتلاهم{…} جاء أحد الضباط وأمر جنوده بانتقاء أربعين من خيرة شباب القرية، وجيئ بهم إلى ساحة البلدة وصاروا يأخذون كل أربعة معا ويأمرونهم بحمل جثث القتلى والجرحى إلى المقبرة ورميهم في حفرة كبيرة هناك. وبعد أن يؤدوا مهمتهم يقتلون أحدهم ويأمرون الثلاثة الباقين بحمله ورميه إلى الحفرة، ثم يقتلون أحد الثلاثة ويأمرون الاثنين الآخرين بحمله ورميه في الحفر وهكذا (ص 149).

وإذا لم يكن التطهير العرقي إبادة عرقية فإنه ينطوي على أعمال وحشية وقتل جماعي ومجازر؛ آلاف الفلسطينيين قتلوا بوحشية وأسروا وطردوا من قراهم وجردوا بشكل منظم من جميع أملاكهم، قبل أن يدفعوا إلى الرحيل في اتجاه الحدود، واضطروا إلى التخلي عن كل ما في بيوتهم ودكاكينهم وملابسهم، من دون رحمة بأيدي جنود إسرائيليين من خلفيات ورتب وأعمار متعددة. وفي أعقاب عملية التطهير العرقي أنشأت معتقلات ضخمة للاحتجاز ومعسكرات اعتقال مركزية للسخرة وكان أسرى المعسكرات يستغلون في المجهود المحلي العام أي السخرة “لتقوية الاقتصاد الإسرائيلي” كما ورد في تقرير موظفي الصليب الأحمر ( ص 231)، وأيا من الجناة لم يحاكم على ارتكاب جرائم حرب على الرغم من الأدلة الوافرة. ومن يدانون بارتكاب جرائم ضد العرب يستمرون في شغل وظائف ذات تأثير في حياة الفلسطينيين. ولا يحاكمون عن جرائمهم، وأحدث مثال على ذلك قضية رجال الشرطة الذين قتلوا ثلاثة عشر فلسطينيا عزلا في تشرين أول/أكتوبر 2000، وسبعة عشرة آخرين منذ ذلك الوقت(ص 230) يقول إيلان بابه:” إنني أتهم، لكني أيضا جزء من المجتمع المدان في هذا الكتاب. وأشعر بأني جزء من الحكاية، وأيضا أتحمل مسؤولية عما جرى” (ص 7).

إن تعريف التطهير العرقي ينطبق تماما على ما جرى سنة 1948، تاريخ طرد الفلسطينيين من وطنهم الأصلي عبر الخطة الإسرائيلية (داليت). كان الهدف الرئيس للحركة تطهير فلسطين تطهيرا عرقيا شاملا. هكذا شمل التطهير منطقة “صفد” ومعظم سكان “الجليل”و”اللد” و”الرملة” وتطهير ثمانية أحياء وتسعة وثلاثين قرية فلسطينية في منطقة القدس الكبرى وطرد سكانها إلى الجزء الشرقي من المدينة.” شمعون أفيدان قائد لواء عفغاتي طهر جبهة من عشرات المدن والقرى”، وجاء في صحيفة (هاآرتس) سنة 2004:” كان هناك مائتا قرية في الجبهة وكلها أزيلت من الوجود. كان لا بد من تدميرها وإلا لكان بقي لدينا هنا أي في (الجزء الجنوبي من فلسطين) عرب مثلما هي الحال في الجليل، ولكان بقي لدينا مليون فلسطيني آخر. وفي ذكرى الفلسطينيين من الناجين كان ضباط الاستخبارات الميدانيين بعد احتلال قرية أو حي ما في مدينة، هم وحدهم الذين يقررون مصير الأهالي: السجن أو الحرية، الحياة أو الموت” (ص14 15). والهدف تحويل فلسطين العربية إلى بلد ذي أغلبية يهودية. وفكرة الترحيل القسري الفلسطينيين كحل صهيوني لمشكلة بلد آهل وأرض مزروعة كانت فكرة راسخة لدى النخبة الصهيونية السياسية. كانوا يراهنون على أغلبية قوية تنتمي إلى عنصر واحد. والترحيل القسري لا يعني ترحيل الفرد بل قرى بكاملها وفرض الأمر بالقوة قال دافيد بن غوريون مخاطبا اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية حزيران/ يونيو 1938:” أنا أؤيد الترحيل القسري، ولا أرى فيه شيئا غير أخلاقي”( ص 1). دون يوسف فايتس يوما بعد زيارته مستوطنات مرج ابن عامر: إني مصاب بيأس متزايد، إن الفكرة الصهيونية هي الرد على المسألة اليهودية في أرض إسرائيل، وفي أرض إسرائيل وحدها، لكن لا ليظل العرب أغلبية فيها. إن تهجير البلد بكامله، بكامله من سكانه الآخرين، وتقديمه إلى الشعب اليهودي هما الرد.”[7]

استخدمت الإبادة لإضفاء الشرعية على العنصرية اليهودية وتبرر أعمالهم المشينة التي لا علاقة لها بالقيم. طرد الفلسطينيين والاستيلاء على أراضيهم جزء من مشروع واع ومنظم  ودؤوب منذ الإعداد لإنشاء الدولة اليهودية الذي كان أكثر أهمية من إنقاذ أرواح اليهود: كتب (يوسف فايتس) مدير الصندوق القومي اليهودي عام 1940:” ينبغي أن يكون واضحا بالنسبة لنا أنه لا مكان لشعبين في هذا البلد. فإن غادره العرب فسيكون كافيا لنا، وليست هناك وسيلة أخرى غير ترحيلهم جميعا، فلا يبق لهم أثر في أي قرية. ويجب أن نوضح لروزفيلت ولقادة الدول الصديقة أن أرض إسرائيل لن تكون صغيرة إذا ما غادرها العرب جميعا، وإذا ما اتسعت الحدود إلى الشمال على طول نهر الليطاني، وإلى الشرق باتجاه مرتفعات الجولان.” بالنسبة للمصطلحات: لا يتحدثون عن طرد الفلسطينيين بل عن التهجير والترحيل (transfert) ودمجهم في المجتمعات العربية، ولا يتحدثون عن”الاستيلاء” على القدس بل على “توحيدها” ولا عن “احتلال” فلسطين بل عن “استقلال” إسرائيل أو عودة الشعب اليهودي إلى أرضه(عبد الوهاب المسيري). ألم يقل مناحيم بيغين عن ياسر عرفات القائد الفلسطيني المحاصر الذي اغتصبت أرض شعبه حينما كان محاصرا في بيروت أنه يشبه القائد النازي المحاصر في مخبئه. وهو الذي جيش جيوشه وأرسلها إلى الشعوب المجاورة ليستولي على أراضيها. تخلصت الحضارة الغربية من اليهود بنقلتهم إلى فلسطين، ونقل الصهاينة الفلسطينيين من أرضهم.

التركيز على الأطفال والنساء لكسر المعنويات

ما جرى في قرية الطنطورة كان إعداما منهجيا للشبان القادرين جسديا على أيدي جنود الاستخبارات وضباطها: وصف الجنود اليهود الذين شاركوا في المجزرة مشاهد تقشعر لها الأبدان: أطفال رضع حطمت جماجمهم، نساء اغتصبن وأحرقن أحياء داخل بيوتهن، ورجال طعنوا حتى الموت. لم تكن هذه روايات قيلت بعد أعوام، وإنما روايات شهود عيان في تقارير رفعت إلى القيادة العليا، خلال أيام قليلة بعد وقوع الحدث.(مجزرة الدوايمة بالقرب من مدينة الخليل) (ص 425) والتركيز على قتل الأطفال والشباب والنساء يعتبر منذ بن غوريون الطريقة الفضلى للتحكم في الميزان الديمغرافي. استحضر نتنياهو إحصاءات بن غوريون سنة 2003 قائلا:” إذا شكل العرب 40% من السكان فتلك نهاية الدولة اليهودية. لن يتمكن اليهود من مجاراة نسبة الإنجاب العالية عند العرب، ويصبح الفلسطينيون خطرا ديمغرافيا وسياسيا لا يمكن درءه إلا باستهداف الشباب والنساء والأطفال رميا بالرصاص: ثلاثون طفلا صغيرا كانوا بين ضحايا المجزرة في دير ياسين. وهي قرية هادئة مسالمة، لكن تقع داخل المناطق التي عينتها الخطة دالت أهدافا للتطهير.( ص 101) واستهداف هذه الفئة والبطش بها سياسة مستمرة حتى اليوم وصور مجزرة أطفال غزة شهدها العالم بأسره. وظيفة إسرائيل هي القتل وتصفية عائلات بتمامها، وتدمير البيوت على أصحابها. والتهجير جزء من خطة صهيونية وضعت عن سابق تصميم، وكان يتم بالقوة او بالتهديد، والغريب أن السكان كانوا يرحلون ويتحملون تكلفة ترحيلهم القسري وكان الهدم والتدمير جزءا مركزيا من النشاط الإسرائيلي. ويعود ارتكاب القتل والتدمير والمجازر إلى عقيدة إيديولوجية واستتراتيجية سياسية نابعتين من فكرة التهجير وحملات الطرد. وهي سياسة رسمية منتظمة وحقيقة تقضي بتعزيز التهجير ومنع عودة اللاجئين، يقول بن غوريون:”ينبغي أن نمنع عودة العرب بأي ثمن”[8] مستشهدا بالمثال التركي- اليوناني، كما كتب فايتس المسؤول عن لجنة “الإجلاء وإعادة التوطين”.

أما الأساليب المستخدمة للطرد: إثارة رعب واسع النطاق، محاصرة وقصف قرى ومراكز سكانية، حرق منازل وأبناك وبضائع، نسف البيوت واقتلاعها بالجرافات، طرد السكان، التشريد مشيا، زرع ألغام متفجرات وسط الأنقاض لمنع السكان المطرودين من العودة إلى بيوتهم، القصف اليومي العنيف بقنابل الهون والقنابل اليدوية، الإعدام بالرصاص، والحرق، الطرد الجماعي الممنهج، وتحت تهديد السلاح، الطرد المنظم لسكان المدن، حصار وتجويع، تدمير المواصلات والتجارة وسبل الرزق، وجلها لازال يستخدم اليوم. يكتب أيلان بابه:” لم يكن في قدرة أي امرئ عدم رؤية جموع  الرجال والنساء والأطفال وهم يتدفقون يوميا في اتجاه الشمال. وكانت النساء والأطفال العنصر الطاغي في هذه القوافل البشرية، الشبان غائبون؛ كانوا إما مقتولين وإما معتقلين وإما مفقودين. أما مراقبو الأمم المتحدة من الأعلى أو شهود العيان اليهود على الأرض، فمن المؤكد أن قلوبهم قد تحجرت، وإلا كيف يمكن تفسير القبول الصامت، بل هذا الترحيل الجماعي القسري الهائل الذي كان يجري تحت بصرهم.”[9]

بخصوص يافا ذات التاريخ الطويل الذي يرجع إلى العصر البرونزي وتراث روماني وبيزنطي مثيران للإعجاب، احتلها عمرو بن العاص سنة 632 وأكسبها صفتها العربية، ذات 24 قرية  و17مسجدا لم يبق منها إلا مسجد واحد بينما اختفت القرى جميعها من الوجود. كتب الصحافي الإسرائيلي عاموس بن- فرد الذي استند إلى شهادات من المحفوظات لمن شارك في الهجوم من جنود “الهاغاناه” الذين احتلوا دير ياسين بعد المجزرة:” وجد جنود “الهاغاناه” الذين دخلوا المقبرة بعد المجزرة ببضعة أيام عشرات الجثث التي لم تدفن، وبينها جثث أطفال رضع ونساء وشيوخ، وجثث بلا رؤوس وأخرى مقبورة البطون، وعثر على الكثير من النساء داخل بيوتهن وأجسادهن مخرمة بطلقات نارية…و قد أغمي على بعض المجندين في الجيش الإسرائيلي عندما وقعت أبصارهم على هذا المنظر…واغتصب عدد كبير من طالبات المدارس صغيرات السن ثم ذبحن”[10] كان الأطفال يقتلون بتكسير رؤوسهم بالعصي واليوم تكسر عظامهم بالحجارة أمام الكاميرات. البربرية والقتل والتدمير جزء من معركة متواصلة قصد محو الذاكرة العربية. تدمير القرى وتحويلها إلى مستعمرات أو إلى غابات طبيعية وإعادة التأهيل والاستيطان لطمس عروبة الأماكن ومحو قطعة من التاريخ وإزالة هوية فلسطين العربية وقتل الذاكرة العربية. هناك وحدة بين العنصرية والصهيونية والاستعمار العالمي: مخطط إسرائيل التهام كل فلسطين والقدس ثابت وقديم. فالرجل الأبيض في أمريكا لم يهدف إلى استغلال الأرض ومن عليها من سكانها، بل إلى استغلال الأرض دون سكانها ولذا لا بد من إبادة السكان الأصليين. وهذا ما حدث في فلسطين؛ لم يقم الصهاينة باستعمار الفلسطينيين وتحويلهم إلى عبيد أجراء، وإنما قامت بالاستيلاء على الأساس المادي الذي يستند إليه المجتمع الفلسطيني ذاته، وأحلت المستوطنين الصهاينة محل الفلسطينيين الذين طردوا وما زالوا يطردون من ديارهم. العقيدة الثابتة لدي الحركة الصهيونية هي أن هدفها لا يكمن في إنقاذ اليهود بل في إنشاء دولة يهودية قومية، وبالتالي فإسرائيل لا تريد السلام بل تريد المزيد من الأرض حتى تحقيق حلمها التلمودي في إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات. ومن يظن أن دولة الاحتلال تقف وحيدة فهو واهم. هي رأس جبل الثلج من مشروع الإخضاع والسيطرة لكل العالم العربي و الإسلامي لأنه عدو تاريخي للغرب والأكثر قدرة متى استيقظ أن يصوب بوصلة العالم.

[1] – التطهير العرقي: سياسة محددة تهدف إلى إزالة منهجية لمجموعة أخرى على أرض معينة، على أساس ديني أو عرقي أو قومي. وهي قائمة على العنف ومرتبطة بعمليات عسكرية ويتم تنفيذها بكل الوسائل الممكنة، من التمييز إلى الإبادة ، وتنطوي على انتهاك لحقوق الإنسان والقانون الدولي…وتشكل أساليب التطهير العرقي، في معظمها، انتهاكا صارخا لاتفاقية جنيف 1949، وللبروتوكولات الإضافية 1977.(Drasen Petrovic « Ethnic Cleansing- An Attempt at Methodology » European Journal of International Law 5/3, 1994 ;pp342- 360

[2] – إيلان بابه، التطهير العرقي في فلسطين، بيروت/ لبنان، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ترجمة أحمد خليفة، الطبعة الأولى 2007.

[3] – نور الدين مصالحة، طرد الفلسطينيين، مفهوم الترانسفير في الفكر  والتخطيط الصهيونيين 1882- 1948، بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، الطبعة الأولى 1992، ص 99.

[4]  – إيلان بابه، التطهير العرقي في فلسطين، بيروت/ لبنان، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ترجمة أحمد خليفة، الطبعة الأولى 2007، ص 249.

[5] – إيلان بابه، م س، ص 101، 102..

[6] – إيلان بابه، م س ص 108.

[7] – نور الدين مصالحة، طرد الفلسطينيين، مفهوم الترانسفير في الفكر والتخطيط الصهيونيين، م س، ص 98.

[8] – نور الدين مصالحة، طرد الفلسطينيين، مفهوم الترانسفير في الفكر  والتخطيط الصهيونيين ،م س، ص 194.

[9] – إيلان بابه، م س، ص 218.

[10] – نور الدين مصالحة، ص179.

المغرب