الرئيسية / أخر المستجدات / من الأحزاب إلى المقاولات السياسية
د عبد الإله بلقزيز/ إذا كانتِ التّمثيليّة قد انتهت، في الدّيمقراطيّات الغربيّة، إلى حيث أصبحت فسيفسائيّةً ومشتَّتة بحيث لا تتولّد منها أغلبية قويّة أو منسجمةُ الخيارات والبرامج، فما ذلك إلاّ لأنّ الحزبيّة فيها بدأت تشهد على

من الأحزاب إلى المقاولات السياسية

د عبد الإله بلقزيز/

إذا كانتِ التّمثيليّة قد انتهت، في الدّيمقراطيّات الغربيّة، إلى حيث أصبحت فسيفسائيّةً ومشتَّتة بحيث لا تتولّد منها أغلبية قويّة أو منسجمةُ الخيارات والبرامج، فما ذلك إلاّ لأنّ الحزبيّة فيها بدأت تشهد على ضمورها وأفولها بعد حقبةٍ مديدة من التّأزُّم الدّاخليّ امتدّت منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي حتّى العقد الأوّل من هذا القرن. ولقد مسَّتِ الأزمةُ كلّ شيءٍ في الحياة الدّاخليّة الحزبيّة وفي هياكل الأحزاب في بلدان الغرب: رؤاها، واستراتيجيّاتها، وبرامجها، ونوع القيادات فيها، وقاعدتها الاجتماعيّة، وأدوارها السّياسيّة، ناهيك عمّا أصاب الثّقافة الحزبيّة وأدواتها التّواصليّة والتّعبويّة من تَرَدٍّ في المضمون والأداء ملحوظ. لا جَرَم، إذن، أن تَسريَ مفاعيلُ هذا التّراجع الحزبيّ على النّظام التّمثيليّ؛ بل على النّظام السّياسيّ برمّته، فتُحدِث تلك الحال من البلقنة في الخريطة التّمثيليّة التي يتعصّى معها إنتاجُ سلطة مستقرّة.

والحقُّ أنّ تحوّلاً هائلاً في طبيعة العمل الحزبيّ وصورته بدأت علائقه تتبدّى في السّنوات الأخيرة. ونحن لا يعنينا من هذا التّحوُّل ما له علاقة بعوامل خارجيّة فاجئة من قبيل: العولمة وما تفرضه نتائجُها ومُنْتَجاتُها من حقائقَ على صعيد تقنيّات التّواصل ووسائل نشر الأفكار؛ أو التّغيّرات الديموغرافية والسّوسيولوجيّة؛ أو تبدُّلات منظومات القيم وغير ذلك، وإنّما يعنينا ما طَرَأَ منه في الدّاخل الحزبيّ نفسه؛ وتحديداً على صعيد ديناميّاته التي تصنع القوّةَ في الأداء الحزبيّ. لقد شرعت هذه الدّيناميّات والفواعل الذّاتيّة في التغيّر، منذ فترة، لينفتح المجالُ أمام أخرى جديدة يتبيّن، شيئاً فشيئاً، كيف أنّها لم تعجز فقط عن أن تقوم مقام الأولى في وظائفها؛ بل باتت تهدّد بهدم العمران الحزبيّ بكامله، ومعه هَدْمُ عمران السّياسة والحياة السّياسيّة في مجتمعات الغرب!

لفترة مديدة من الزّمن، تعود إلى القرن التّاسع عشر، بُنِي العمل الحزبيّ على فكرةٍ عليا (وطنيّة، ديمقراطيّة، اشتراكيّة، اجتماعيّة…) اشْتُقَّ منها مشروعٌ سياسيّ اجتمعت عليه نخبة من السّياسيّين (غالباً ما كان المثقّفون جزءاً رئيسياً منها). ثمّ اقتضى العمل لتحقيق المشروع هذا بناء أداةٍ تنظيميّة، وصوْغ برنامج عملٍ سياسيّ سرعان ما تأتلف حوله – وحول أداته الحزبيّة وقيادته – قاعدةٌ اجتماعيّة محازِبة (منتمية) وأخرى متعاطفة، وثالثة متفاعلة ومناصِرَة في المنافسات.

وكان على الحزب أن يبنيَ شرعيّته بصدقيّةِ مشروعه السّياسيّ، وبرنامجه الذي يجيب مطالبَ جمهوره، وكفاءة قيادته ونزاهتها وكاريزما زعمائه، واقتدار أدواته الإيديولوجيّة: الإعلاميّة والتّثقيفيّة والتّعبويّة، في إقناع الرّأي العامّ المخاطَب بوجاهة المشروع السّياسيّ الذي يحمله، والذي يَعِد بتحقيقه إن وَصَل إلى السّلطة. هكذا نشأت أحزاب الجمهوريّين والدّيمقراطيّين في أمريكا؛ والمحافظين والعمّال في بريطانيا؛ والشّيوعيّين والنّازيّين والاشتراكيّين والدّيمقراطيّين المسيحيّين في ألمانيا؛ والدّيغوليّين والشّيوعيّين والاشتراكيّين في فرنسا؛ والدّيمقراطيّين المسيحيّين والشّيوعيّين في إيطاليا…إلخ، وبهذه العُدّة والعتاد اشتغَلَتْ.

انتهت هذه المرحلة من السّياسة التي كان يصنعها سياسيّون محترفون متفرّغون للشّأن العامّ، وانتهى معها نمطٌ من الحزبيّة قام على الأفكار وعلى أدوات الإقناع لتنشأ، من تحت حطامها، مرحلةٌ جديدة مختلفة في الطّبيعة والملامح والأدوات والدّيناميّات والرّجالات. لم يَعُدِ الحزبُ حزباً، أصبح مقاولةً سياسيّة تُدار بالعقليّة عينِها، والكيفيّة عينِها، التي بهما تُدَارُ أيُّ مقاولة! ولم تعُدِ السّياسةُ موضوعَ أهلها الطّبيعيّين (السّياسيّين)؛ بل بات ينتحلها لنفسه مَن ليس له في السّياسة تاريخٌ ولا شُبْهةُ خبرة.

وها هم «سياسيّو» اليوم يأتونَ السّياسةَ، ويأتون إلى السّياسة، من مجالات المال وإدارة الأعمال والمقاولات، فيشترون الإعلام والنّخب، ويشترون الزّعامة لأنفسهم، لِيتصدّروا الرّئاسات والحكومات، ويَلِجون البرلمانات – بعد شراء الأصوات – لوضع اليد على سلطة التّشريع بعد وضعها على مناصب رئاسة الدّولة والحكومة. ومنذ نجح بيرلوسكوني في اختراق عالم السّياسة في بلده ( إيطاليا)، بات مألوفاً عند رجال المال والأعمال في الغرب أن يقتحموا هذا العالم مستثمرين فيه رصيدهم الماديّ ( الماليّ)!

يستولي رجال المال والأعمال، اليوم، على أحزابٍ عريقة في بلدان الغرب. ومَن لم يَقْوَ منهم على الاستيلاء أو على شراء ترشيحه للرّئاسة، يصنع له حزباً يخوض به المنافسة. لذلك كثُرتِ الأحزاب التي من هذا الضّرب حتّى لم يعُد يُعْرَف لها برنامجٌ أو مشروع. ما الذي تنتظره مجتمعات الغرب، إذن، من أحزاب يُديرها رجالٌ لا علاقة لهم بالسّياسة والشّؤون العامّة؛ ثمّ ماذا يمكنها أن تنتظر من دولٍ تصير فيها نُخب المقاولات والمال نخباً سياسيّة حاكمة؟ إنّه، حقّاً، منعطفٌ رديء هذا المنعطف الذي يشهد عليه التّاريخ السّياسيّ في الغرب، اليوم، ومحفوفٌ بالمخاطر. وهو، قطعاً، لن يُفسد الحياة الحزبيّة وحدها؛ بل الحياة السّياسيّة والسّلطة والتّمثيل والديّمقراطيّة والدّولة جميعاً.

[email protected]