الرئيسية / أخر المستجدات / الحرية والسوق في الغرب
د عبد الإله بلقزيز/ يشعر كلّ مواطن في المجتمعات الغربيّة أنّه يتمتّع بحريّته تمتُّعاً كاملاً؛ وأنه لا شيء يصادِر إرادته، أو يضع عليها الكوابح الرّادعة؛ وأنّ حريّته، كما حقوقه، مأمونةٌ لا خوفٌ عليها لأنّ القوانين تحميها وتحيطُها بكلّ الضّمانات؛ أنّ إرادته محترمة وغير معرَّضة للتّزييف أو السّرقة.

الحرية والسوق في الغرب

د عبد الإله بلقزيز/

يشعر كلّ مواطن في المجتمعات الغربيّة أنّه يتمتّع بحريّته تمتُّعاً كاملاً؛ وأنه لا شيء يصادِر إرادته، أو يضع عليها الكوابح الرّادعة؛ وأنّ حريّته، كما حقوقه، مأمونةٌ لا خوفٌ عليها لأنّ القوانين تحميها وتحيطُها بكلّ الضّمانات؛ أنّ إرادته محترمة وغير معرَّضة للتّزييف أو السّرقة. وهذا كلُّه يصنع لديه شعوراً إيجابيّاً، داخل محيطه الاجتماعيّ والسّياسيّ؛ الشّعور بالاطمئنان، ابتداءً، ولكن أيضاً – وأساساً – الشّعور بالمسؤوليّة تجاه هذه المكتسبات، وأوّلها مسؤوليّة الحفاظ عليها وتنميّتها وتعظيمها.. ومقاومة كلّ محاولةٍ للنّيل منها.

لهذا الشّعور ما يؤسّسه ويبرِّره في واقع المجتمعات الغربيّة وفي يوميات المواطن فيها. يمارس هذا المواطن حرّيته من غير قيود إلاّ تلك التي تفرِضها القوانين صوْناً للسِّلم المدنيّة. حياتُه الخاصّة مُلْكٌ له لا يتدخّل فيها أحد، ولا تُنْتَهك فيها خصوصيّاته. أمّا الحياة العامّة فيشارك فيها في وجوه تَمظْهُرها كافّة؛ يعبّر عن رأيه بحريّة في وسائط التّعبير كافّة؛ ينتمي إلى ما شاء من مؤسّسات اجتماعيّة (حزب، نقابة، جمعيّة مدنيّة…)؛ يشارك في الاقتراع بصوته وإرادته الحرّة؛ يترشّح للمجالس التّمثيليّة: المحليّة والوطنيّة، أو لأجهزة المؤسّسات المدنيّة التي ينتسب إليها؛ يملك الحقّ في النّشر وفي تأسيس المطبوعات؛ لا يتعرّض من أجهزة بلدٍ لأيّ مساءلة إلاّ إذا انتهك القوانين؛ يتظاهر في السّاحات العامّة للتّعبير عن موقف الاحتجاج من سياساتٍ رسميّة في الدّاخل والخارج؛ مطمئنّ إلى نزاهة القضاء واستقلاليّته في بلده؛ يتنقّل بحريّة في العالم الخارجيّ ولا يحتاج إلى تأشيرة دخول إلى معظم بلدان العالم.

باختصار، لا يرتاب المواطن الأوروبيّ أو الأمريكيّ أو اليابانيّ…، الذي يحْوز كلّ هذه الحقوق المدنيّة والسّياسيّة، في أنّه يتمتّع – فعلاً – بالحريّة، وأنّه يفعل ويختار بمحض إرادته، من دون ضغطٍ عليه أو تقييدٍ أو توجيه. ولذلك ينمو لديه ذلك الشّعور الإيجابيّ الذي أشرتُ إليه. طبعاً، ما هذا هو شعور الجميع في بلدان الغرب. لعلّه، بالأحرى، شعور السّواد الأعظم من المواطنين؛ فيما يظلّ قسمٌ كبير منهم يشكّ في أنّ الحريّات والحقوق مصانة ومحميّة، ويحتفظ بالكثير من الشّكّ النّقديّ في السّرديّات الرّسميّة عنها؛ بل ينخرط في فعاليّات معارضة لتلك السّياسات، ويَجهر بمواقف نقديّة لها تجعله يبدو، أحياناً، وكأنّه يُعَرِّض بكلّ العمران السّياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ الغربيّ ويرفضه رفْضَ الجملةِ والتّفصيل. ومن البيّن أنّ هذه الحساسيّة النّقديّة العالية تجاه المنوال الاجتماعيّ والسّياسيّ الغربيّ السّائد ليست عامّة، ولا تمتلكها إلاّ نخبة صغيرة من الذين لم يستطع ذلك المنوالُ أن يستوعبهم، ولا تلك السّرديّات الورديّة أن تأتيَ على يَقْظتهم الذّهنيّة فتُحنِّط وَعْيَهم بما وراء الواجهات البرّاقة من حقائق محجوبة.

كثيراً ما ينتبه الوعيُ الغربيّ، المعتدُّ بالحريّة، إلى نظامه السّياسيّ القائم على مبدأ المواطنة ومنظومة الحقوق المدنيّة والسّياسيّة المقترنة بها، والمكفولة من القوانين السّائدة، ولكنّه قلّما ينتبه إلى أنّ مبنى ذلك النّظام السّياسيّ على نظامٍ اقتصاديّ مؤسِّس هو النّظام الرّأسماليّ. وعليه، يُخطِئ النّظرَ إلى الحريّة، وضْعاً وحدوداً، حين لا يقرأ حالَها في ضوء حقائق الرّأسماليّة تلك، وفي ما عساها تكون تأثيراتُها على تلك الحريّة التي يتم الشعور بها. إنّ هذه تفرض أحكامَها وقوانينَها في كلّ المجتمعات التي تسود فيها، وتُخضع لها النّاس الذين ليسوا، في منطقها، إلاّ مستهلكين. وقوانين الرّأسماليّة هي عينُها قوانين السّوق التي تخلُقها. وهذه التي تبدو حرّة ومفتوحة إنّما تستعبد النّاس وتفرض عليهم قيودها الشّديدة، التي تُحْكِم ربطهم ومصائرهم بها. لم تتطوّر في الفكر الغربيّ سوسيولوجيا خاصّة بهذه الظّاهرة بعد؛ لِنُسمّها سوسيولوجيا عبوديّة السّوق. لكنّ هذه العبوديّة قائمة في الواقع، وتتزايد معطياتُها في يوميّات النّاس. مَن يملك، اليوم، من مواطني الغرب، أن يدّعي أنّه حرٌّ إزاء سلطة السّوق على قُوتِه؛ على طاقته الشّرائيّة، ومَسْكنه ومركوبه وعلاقاته الاجتماعيّة؟ ومن يملُك أن يزعُم أنّه يستطيع أن يكون، في معيشه، في غُنيةٍ عن هذه السّوق، أو يستطيع – على الأقلّ – أن يقاوم أحكامها عليه وعلى الاجتماع عموماً؟

ليس من حريّةٍ في نطاق قوانين السّوق؛ لأنّ هذه قهريّة ذاتُ سلطانٍ ماديّ. والمرء وإن كان يعتقد أنّه يملك حريّة الاختيار إزاء هذه السّوق، فهي حريّةٌ مجازيّة داخل نصٍّ واقعيّ يضع الأحكام والأختامَ والتّخوم. الرّأسماليّةُ «الحرّة» قيْدٌ على كلّ حريّةٍ فرديّةٍ وجماعيّة. وهذه حقيقة لا تتبيّن لمن يرزحون في أغلالها.

[email protected]