الرئيسية / أخر المستجدات / في الحداثة ومعوقاتها
يوسف مكي

في الحداثة ومعوقاتها

د يوسف مكي/

تعود الترجمة العربية للحداثة إلى التمدين modernity، واستخدم المفهوم في بدايته بالمعمار الحديث. ولم يستخدم في مجال الفكر إلا في مراحل لاحقة. والمفهوم ذاته، يشي بصعوبة وجود مجتمع حداثي خالص، وكذلك قضايا المعاصرة والتقدم، هي أمور نسبية. وقد ارتبطت الحداثة، بالنظم التعاقدية؛ حيث الشعب هو مصدر السلطات، لكنها في مراحلها الأولى، لم تتصد للبون الشاسع بين الغنى والفقر، وبقيت مجتمعاتها، تعيش تناقضات اجتماعية واسعة. وكان لهذا الواقع انعكاساته، على الفكر وتطوره.

لقد تعايشت زمنياً، أفكار المحافظة والتقدم مع بعضها منذ القدم. فهناك مع توهج حضارة الإغريق، ماديّون ورواقيون وأبيقوريون. وفي العصر العربي، وجد معتزلة وأشعريون، كما أن هناك شعراء مجددين، كأبي تمام، وغيره وجدوا في الماضي ذروة ما أبدعته الحضارة. وأيضاً على اختلاف أنماط العيش والثقافات بين المركز والأطراف.

بقي الفكر المحافظ متمسكاً بالمقولة الشائعة: ليس بالإمكان أبدع مما كان، في حين ينطلق الفكر المجدد من التسليم بقوانين الحركة، وبمقولة: إنك لا تستطيع أن تعوم في ماء النهر مرتين. والأفكار بكل تنوعاتها لا تموت، وإنما تأخذ أشكالاً جديدة. وما كان معاصراً بالأمس، يغدو غير ذلك، حين لا يتعايش ويتكيف مع التطور التاريخي، ومنجزات العلم والحضارة.

 تأخر العرب عن الحداثة، بكل تجلياتها، وجرت إعاقة المشروع الحداثي العربي، التي عبّرت عنها مرحلة التنوير. وسبب هذه الإعاقة، لا تكمن في عدم القدرة على تفكيك أسباب تخلف الأمة؛ بل هي في جزء منها، نتاج لعاملين رئيسيين، الأول، غياب المشروع الاستراتيجي الذي يتكفل بتحول المجتمع العربي من حاله القديم، إلى الحداثة. والثاني هو غياب الحامل الاجتماعي للنهوض. وتلك قضايا تناولتها في مقالات عدة، حملت مقاربات بين عصر الأنوار الأوروبي، وما تمخض عنه، وعصر التنوير العربي، ونتائجه.

  انتقلت القارة الأوروبية للحداثة، عبر مرحلة طويلة، امتدت قرابة أربعة عقود، منذ بداية حركة الإصلاح الديني، في ألمانيا وفرنسا. وقد شهدت القارة مرحلة تبشير بها، عبرت عنها أفكار روسو ومونتسيكيو ولوك وهوبز، وأدب هيجو وفولتير. وقد كانت تلك الأفكار بوصلة لما بعد اندلاع الثورة الصناعية، واندلاع الثورات الاجتماعية في فرنسا وإنجلترا. وقد اضطلع أرباب العمل بدور الحاضن الاجتماعي لدولة المواطنة والعقد الاجتماعي، وللحقوق الفردية والملكية الخاصة.

 في الوطن العربي، تعطل مشروع التنوير، بشكل واضح منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وجرى تدمير ممنهج للقوى الاجتماعية، التي بذرت نبتات التنوير. وللأسف لم تبرز حتى يومنا هذا قوة اجتماعية، أو هياكل سياسية، تحتضن هذا المشروع. وبالتأكيد فإن الوعي بهذه الحقائق، على مرارتها، يفتح بوابات أمل جديد، بإمكانية تجاوز واقع التخلف الراهن.

  النهوض، وآلياته وهياكله، هو الذي يضمن السير إلى الأمام، دون تهميش أو إقصاء للآخر، ومن ضمنها الأفكار. وفكر الحداثة حين يتحول إلى نمط حياتي، سيكون موضع قبول الجميع.

 في فرنسا، عارضت قوى اجتماعية عديدة، التحولات السياسية التي ارتبطت بها، لكنها غيّرت مواقفها بعد أن استقرت الأمور، لمصلحة المبادئ التي بشرت بها الثورة الفرنسية. فالكنيسة التي عارضت الثورة، تدافع الآن عن قيم التعددية، التي هي جوهر وروح الثورة الفرنسية، لأنها إن لم تقدم على ذلك، وتتكيف مع الهياكل الاجتماعية الجديدة، تفقد صلتها بالواقع. ومثل ذلك يقال عن الكاثوليك، الذين اندلعت ثورة المتطهرين في بريطانيا، لمصادرة دورهم، والانتصار للإصلاح الديني اللوثري. لكنهم بعد عودة الملكية حافظوا على الإرث السياسي للمتطهرين. فالكاثوليك باتوا يشاركون بالفعل، في كل المجالات الفكرية والسياسية وفقاً للشروط التي هيأت لها حركة الإصلاح الديني في بريطانيا وفرنسا، والتي شملت القارة الأوروبية، وأمريكا ومناطق أخرى من القارات القديمة.

 الولوج العربي، في مرحلة الحداثة، يتطلب وفرة في مناخات الحرية الفكرية، لأنها شرط لازم لأي عمل فكري أو إبداعي. ولا يمكن لأي مجتمع من المجتمعات أن يعيش من غير ثقافة، مهما كانت درجة اندماجه بالحراك الإنساني الدائر من حولنا.

 الولوج للحداثة، يقتضي الانتقال إلى وعي جديد، ينقل العرب من صفة الناقلين، من غير خوف أو وجل، لأن في تاريخنا العريق من تراكم الحضارة والمواريث، ما يؤهلنا لأن نلعب هذا الدور. وما ينبغي تأكيده في هذا السياق، هو أهمية رفع سقف حرية التعبير، ورسم سياسات تجرم الكراهية، وتحرض على الإبداع والتفكير، وتنتصر للعلم وللعقل، وتتخلى عن ثقافة التلقين، باعتماد التحليل والتفكيك، والتشجيع على البحث العلمي، بكافة صنوفه.

[email protected]