الرئيسية / أخر المستجدات / حدود الاغتصاب اللّغويّ
لغتي هويتي
أهمية اللغة

حدود الاغتصاب اللّغويّ

د عبد الإله بلقزيز/

ما من طريقٍ أسلك إلى تصفية ذاكرة مجتمعٍ أو أمّة من إصابة لسانها في مقتل؛ من إنجاب أجيال جديدة فيها لا تعرف لسانها لأنّها لا تستخدمه في التّعليم والقراءة والعمل وفي الحياة العامّة. مصادَرةُ اللّسان القوميّ ومحْوُه يقطع أيَّ صلةٍ للمرء بتاريخه: بتاريخه الثّقافيّ والحضاريّ والسّياسيّ، ولعلّه يدفع به إلى إنكار ذلك التّاريخ جملةً ومناصبته العداء. ومن النّافل القول إنّ مثل هذا الاغتصاب اللّغويّ والثّقافيّ يعيد تكوين المعرَّض له بوصفه برّانيّاً عن تاريخه و، بالتّالي، عمّا يربطه بالمجتمع ونظام القيم، الأمر الذي يتولّد منه يُسْرُ استيعابه في منظومات ثقافيّة وقيميّة أخرى. وقد ينتهي فعْلُ الاغتصاب اللّغويّ بالمجتمع، رُمّةً، إلى فقدان الذّاكرة التّاريخيّة التي ما من أداةٍ أمْضى من اللّغة لحِفظها والتّواصُل الدّائب معها.

الغالب على هذه الأحوال من اغتصاب اللّسان والسّعيِ في مَحْو الذّاكرة والنَّـزْعِ العنيف عن الجذور، أنّها تحدُث بفعل فاعلٍ هو المستعمر. هذا، دائماً، دَيْدَنُه ودَأْبُه مع المستعمَر. يدرِك، بخبرة الغزو، أنّ الطّريق الأقصر واللاّحب لتليين عريكة الشّعوب الموطوءة أراضيها، وإطباقِ السّيطرة عليها – مباشِرةً كانت، بالحكم العسكريّ، أو غيرَ مباشِرة؛ بعد الجلاء العسكريّ عن البلاد – تجريدُها من موارد المقاومة (المسلّحة أو المدنيّة أو النّفسيّة) وفي جملتها، بل على رأس قائمتها، الذّاكرة التّاريخيّة والهويّة والذّاتيّة الحضاريّة والشّعور الجمْعي بالاستمراريّة التّاريخيّة. وهو يَعْلم – بخبرة الغزاة دائماً – أنّه كلّما أحرزَ نجاحاً في هذا المَسْلك، تعاظمت فرصُه لتحقيق الهضم الكامل للمجتمع المحتلّة أرضُه وتبديد شخصيّته و، بالتّالي، استيعابُه الاستيعابَ الكامل في منظومة الغالب.

ولقد يُصيب المستعمِر نجاحاً في مسعاهُ إلى اغتصاب اللّسان وإحداث المَسْخ الثّقافيّ ومَحْو الذّاكرة، وربّما يُخْفِق في ذلك في حالات. والأمرُ، في الحاليْن، وقْفٌ على مستوى تشبُّع المَغْزُوّ ومجتمعه بالتّاريخ؛ حيث الفارق كبير بين شعوب تاريخيّة أو مكتنِزٌ اجتماعُها بالتّاريخ، وأخرى لم تبلُغ في مَرْقى التّطوّر هذه العتبة من التّشبُّع بالحسّ التّاريخيّ. لذلك وجدْناه، مثلاً، ينجح في فرض لسانه على شعوب القارّة الأمريكيّة ومعظم شعوب القارّة الأفريقيّة لساناً «وطنيّاً» لكلّ شعب، بل لسان مخاطَبَةٍ يوميّة بين النّاس، فيما لم تُفلح مائة واثنان وثلاثون عاماً من الاحتلال الفرنسيّ للجزائر، وثلاثة أرباع القرن من الاحتلال الإسرائيليّ لفلسطين من محْو ذاكرة الشّعبين، ولا من اغتصاب لسانهما.

غير أنّ مَحْو الذّاكرة يمكن أن يتولّد من خيارات تنهجُها نخبٌ محلّيّة حاكمة في بلدان عدّة، بإرادةٍ منها أو تقريرٍ بأنّ مصلحةً مّا يمكن أن تنجم من تبديد الماضي، وقطع أواصر الصّلة به، قصد «التّحرّر» من القيود التي تمنع بلادها من التّقدّم والانخراط في العالميّة. وهذا نوعٌ ثانٍ من الانفكاك عن الذّاكرة والماضي يجري التّعبيرُ عنه، والسّعيُ فيه، من طريق الإقدام على عمليّةٍ من الانشقاق الذّاتيّ الاختياريّ عن الأصول الحضاريّة والثّقافيّة المرجعيّة للمجتمع والدّولة. ذلك، مثلاً، ما فعله مصطفى كمال أتاتورك في تركيا الحديثة، غبّ انهيار الامبراطوريّة العثمانيّة، حين قرّر تغيير الحرف العربيّ لكتابة التّركيّة وتعويضه بالحرف اللاّتينيّ. وكان الإجراءُ هذا وحده يكفي لكي يغيّر علاقةَ أمّةٍ بتاريخها؛ إذْ هو يقطع خطّ التّواصل مع ذلك التّاريخ من طريق إلغاء الحرف الذي به كُتِب كلّ التّاريخ التّركيّ: الثّقافيّ والسّياسيّ والدّينيّ. أمّا الهدف فالعلمنةُ الشّاملة – من النّمط اليعقوبيّ – التي تصل إلى حدّ تجفيف الينابيع الدّينيّة.

لم تسلك بلدانٌ عربيّة وإسلاميّة مسلك تركيا في استبدال الحرف، لكنّ دولها فعلتْ ما يقارب ذلك في النّتائج؛ ففرَض بعضُها لغات الأجنبيّ لغاتٍ رسميّةً في منظومات التّعليم وفي الإدارة والاقتصاد والمال؛ وتوسّعت في التّرخيص للمدارس والجامعات الأجنبيّة. وكانت النّتيجة أنّ أجيالاً جديدة من مواطنيها لا تتقن إلاّ اللّغات الأجنبيّة، بل عديمةُ العلم بلسانها القوميّ. والأنكى أنّ أطرَها هي النّافذة في أجهزة الدّولة ومؤسّساتها، لأنّها المطلوبة لأداء وظائف – في القطاعيْن العامّ والخاصّ- لا إمكانَ لتأديتها إلاّ باللّغة الأجنبيّة. وموازاةً لهذه «العالَميّة» التي نشدَتْها النّخب الحاكمة، بسياساتها اللّغويّة تلك، أوْسَعَتِ الباب أمام إدخال الدّوارِج (العاميّات) في الكثير من القطاعات (الإعلام، الإعلانات…) بدلاً من اللّسان الفصيح، وشجّعت دعوات إلى استدماج العاميّة في نظام التّدريس والتّعليم بزعم صعوبة تلقُّن التّلاميذ لقواعد اللّغة! وما من شكّ في أنّ السّياسات هذه مندرجة في نطاق استراتيجيّة الاغتصاب اللّغويّ لمحو الذّاكرة؛ ولكن، هذه المرّة، بفعل فاعلٍ آخر: النّخب المحلّية المتغربنة.

ولكن، هل في وُسْع نخب أنغلوفونيّة وفرنكوفونيّة متنفّذة أن تنجح في ما أخفقت فيه القوى الاستعماريّة إبّان احتلالها ديارَنا العربيّة؟ ألاَ يحاصِرُها تاريخُ مجتمعاتها ويقيّد مسْعاها كلَّ يوم بتزايُد أعداد المتمسّكين به من التّيارات المختلفة؟ لعلّ الشّيء الوحيد الذي ذهلتْ عنه ولم تنتبه إليه أنّ الجراحات القيصريّةَ إذا كانت جائزة في الأبدان، فهي لا تجوز في الأفكار والوجدانات والنّفوس، ولا تتولّد منها النّتائجُ عينُـها!

[email protected]