الرئيسية / أخر المستجدات / من المساواة والعدالة إلى التمييز والحيْف
عبد الإله بلقزيز

من المساواة والعدالة إلى التمييز والحيْف

د عبد الإله بلقزيز/

من البيّن أن الثروة، في المجتمعات الغربية المحكومة بمبادئ الليبرالية الاقتصادية والسياسية، خارج منطقة المساواة وأحكامها، ليست موضوعَ تدبير سياسي مساواتي لها بين المواطنين؛ بل هي تُوضع موطِن تنافس بينهم، وبالتالي لا مهرب من التسليم بأن التفاوت في حيازة الحصص منها هو القانون الحاكم في تلك المجتمعات. وإن شئنا الدقة هو، عند الليبرالية، القانون الوحيد «العادل» الذي يفرضه التنافس و«الحرية» الاقتصادية وحق التملك. وعليه، ليس للدولة في منطق الليبرالية أن تتدخل في عملية اقتصادية «حرة» تجري بمقتضى قوانينها. وكل تدخّل منها باسم كفالة الحقوق الاجتماعية انتهاك منها لحرية الرأسمال وحرية السوق.

هذا هو منطق الليبرالية الاقتصادية في أطوارها الثلاثة الكبرى في الثلاثمئة عام الأخيرة: طور المزاحمة، وطور الاحتكار (الإمبريالية)، ثم طور الليبرالية المتوحشة (العولمة). لم يشذ عنها غير طور انتقالي امتد لعقود ثلاثة صحّحت فيه الليبرالية منطقها الدارويني، وأخذت فيه بفكرة الحاجة إلى استدخال الاجتماعي في منظومتها، وإجابة بعض الحقوق الاجتماعية للمواطنين. كانت هذه الجرعة أعلى في بلدان أوروبا الشمالية من بقية بلدان الغرب، غير أن أوروبا الغربية عموماً، سارت في هذا النهج التصحيحي المستند إلى الرؤية الكينزية، للتنمية، فأقامت نموذجاً جديداً للدولة والتنمية هو نموذج: دولة الرعاية الاجتماعية الذي جرب جَسْر الفجوة، لأول مرة، بين المساواة والعدالة.

وما من شك في أن الاستقطاب الدولي بين المعسكرين، بعد الحرب العالمية الثانية، والنجاحات التي حققها نفوذ الفكرة الاشتراكية في أوروبا وفي بلدان الجنوب، وصعود مد القوى الشيوعية واليسارية داخل الغرب الأوروبي، وجاذبية المسألة الاجتماعية في حشد الشعبية للفكرة الاشتراكية، داخل الغرب وفي العالم، جميعها أسهمت في رفع درجة انتباه الليبرالية لأهمية هذا الرأسمال الاجتماعي في تنمية عوامل القوة الذاتية. ولقد قادها ذلك إلى محاولة ملء الفراغ المَهُول للاجتماعي في منظومتها، وبالتالي مجاراة البلدان «الاشتراكية» في العناية بالحقوق الاجتماعية أسوة بالحقوق السياسية. ولكن الليبرالية لم تتراجع، فقط، لأن تحدياً اشتراكياً وشيوعياً لها في محيطها وفي داخلها الاجتماعي، يفرض نفسَه عليها، ولكنها أقدمت على ذلك لما فيه من منفعة ومصلحة. فعلت ذلك قصد استيعاب أزماتها الاجتماعية، واستيعاب طبقاتها العاملة ونقاباتها وأحزابها الشيوعية والاشتراكية واليسارية.. واستيعاب احتمالات الثورة الاجتماعية فيها. ولا مِرْية في أنها أحرزت، بنموذج دولة الرعاية الاجتماعية، نجاحات هائلة على مستوى استراتيجية الاستيعاب تلك، وما نجم منها من استقرار سياسي. ونتيجة ذلك، فإن فورة اليسار والحركة النقابية في الغرب شرعت في الاضمحلال التدريجي منذ ذلك الحين، على نحو ما لاحظ ذلك بحق مفكرون نقديون كثر، كان هربرت ماركيوز أمْيزَهم.

ولم تكن منظومة الدول الاشتراكية قد عوّضت حرمان شعوبها من حقوقها السياسية بتمتيعها بالحد الأدنى القليل من حقوقها الاجتماعية؛ أي لم تكن قد سترت غياب مبدأ المساواة في اجتماعها السياسي ببعض قليل من أحكام مبدأ العدالة الاجتماعية، حتى كانت نُظمها قد بدأت تتعرض للتصدع، في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي، وصولاً إلى السقوط المدوي ونهاية النموذج الاجتماعي الذي ابْتَنَتْهُ، لتشرع في الالتحاق بالنموذج الليبرالي الاقتصادي السائد في الغرب. هكذا فقدت امتيازها الاجتماعي وفقدت شعوبها ما كان لها من حقوق أُسوة بشعوب الغرب التي فقدتها بتفكيك نموذج دولة الرعاية الاجتماعية ولكن من غير أن تكون قد حظيت بمكتسبات سياسية نظير التي لشعوب الغرب.

والطامة الكبرى أن البلدان «الاشتراكية» الملتحقة بالليبرالية، بدءاً من تسعينات القرن، التحقت بأسوأ طبعة من طبعاتها: الليبرالية المتوحشة التي انطلقت في الحقبة الريغانية التاتشيرية، بعد أن قوّضت مكتسبات دولة الرعاية الاجتماعية تقويضاً كاملاً. هكذا ستَلِج جحيماً اجتماعياً لم تكن تملك القدرة على جبهه، وهي الخارجة أصلاً من جحيم سياسي. مَن يستطيع أن ينسى ما نُكِبت به روسيا «الليبرالية» في عهد بوريس يلتسين، ومافيا الفساد التي أطلقها «تحرير» الاقتصاد من «قيود» الدولة في سنوات التسعينات؟ وقس على ذلك في باقي بلدان شرق أوروبا.

وبالجملة، سيتبخر هذان المبدآن الإنسانيان الرفيعان، الموروثان عن حقبة صعود الفكر الثوري الديمقراطي في أوروبا، لتنتقل مجتمعات الغرب ومعها مجتمعات العالم من السعي الحثيث في تحقيق المساواة والعدالة إلى حصاد التمييز والحَيْف.

[email protected]