الرئيسية / أخر المستجدات / لا عدالة مجالية حقة بدون استكمال الوحدة الترابية
عبد الواحد الفاسي

لا عدالة مجالية حقة بدون استكمال الوحدة الترابية

 

بقلم عبد الواحد الفاسي (الرباط في 17 ماي 2023)/

        إن مفهوم العدالة المجالية لا يمكن أن يتحقق في ظل استمرار أطراف كبيرة من الوطن تحت السيطرة الأجنبية . لا يمكن أن نتحدث عن عدالة مجالية ونحن أمام وطن ما تزال أجزاء كبيرة منه غير مسترجعة وإلا سنسقط في فخ التسليم بواقع الأمور والاكتفاء بما تحت أيدينا من مجال مبتور الأطراف.

هكذا كان صاحب التفكير الشمولي يتصور تحقيق العدالة المجالية والتي سيستفيد منها كل المواطنين وفي أي مكان من جغرافية الوطن دون إقصاء أو تمييز. وهذا ما يفسر أيضا إصراره على استرجاع كل المناطق والأراضي والمدن المغربية المحتلة ، جنوبا وشمالا وشرقا والتي كانت مقسمة بين الاستعمارين الفرنسي والاسباني.

لقد تطرقنا كثيرا ، و في العديد من المناسبات ، إلى موضوع الصحراء المغربية والدور الذي لعبه الزعيم علال الفاسي من أجل هذه القضية الوطنية ؛ قضية استرجاع الأراضي المغتصبة.

الكل يعلم أنه في بداية الاستقلال ، الذي كان يعتبره علال الفاسي استقلالا أعرجا، كان هناك العديد من الشخصيات المغربية – والذين لن أذكر أسماءهم احتراما لماضيهم في الكفاح الوطني – كانوا يعتبرون الكلام عن تحرير الصحراء مضيعة للوقت ، وأن ما ينتظرنا من عمل بالمساحة التي حصلنا عليها كاف وماذا سنصنع بحفنة من الرمال .

ولن أنسى أبدا الكاريكاتور (caricature)  التي نشرت بإحدى الصحف ويظهر فيها علال الفاسي على ظهر جمل تائه في الصحراء كالأحمق . لكن علال الفاسي لم يهتم بهذا الكلام أو هذا الرسم ، ولم يغير قناعاته لأنه كان يؤمن بأن الله خلقه من أجل الدفاع عن الوطن والعمل من أجل ذلك ، أو كمنبه – على الأقل – إن لم يستطع فعل أي شيء . وذلك لكي تبقى الفكرة ويبقى المطلب قائما إلى أن يشاء الله. المهم والأساسي يتجلى في ما كان يقدمه من حجج وبراهين عن حقيقة ما يدافع عنه وصدقية ما يدعو إليه. وهنا لابد من أن أذكر وأشير إلى بعض المنشورات المليئة بهذه الحجج والبراهين ومنها ” صحراء المغرب ” و” آفاق صحراوية ” (perspectives sahariennes) و ” الكتاب الأحمر” و ” كي لا ننسى ” وغيرها .

وقد كان ، رحمه الله ، لا يفوِّت أية فرصة  ولا أي منبر، لكي يحث على استكمال الوحدة الترابية. وهنا أذكِّر بكلمته الصادحة الموجهة للمؤتمر التأسيس للشبيبة الاستقلالية في 25 مارس 1956، المعروفة “بالألوكة” والتي يحث فيها شباب الحزب على التعبئة الدائمة والعمل الدؤوب من أجل استكمال الوحدة الترابية.

المهم هو أن تبقى الشعلة موقدة . فبالنسبة إليه المغرب كيان واحد وهو أرض إسلام ، وبالتالي ” حب الأوطان من الإيمان “. وقد أرادت مشيئة الله أن تكون آخر كلمات ينطق بها ، في رومانيا ، قبل أن يلبي نداء ربه ، هما فلسطين والصحراء المغربية.

عندما كان يتطرق لموضوع الصحراء ، كان يفكر باستمرار في الصحراء التي كانت مستعمرة اسبانية ( الساقية الحمراء ووادي الذهب ) والصحراء الشرقية بأكملها ، وبطبيعة الحال تندوف . وتندوف لها رمزية خاصة .

من المعروف أن فرنسا واسبانيا قسّمتا البلاد ، وحاولتا أن تجعلان  منها أشلاء متفرقة، حتى لا يمكن  في يوم من الأيام  جمعها بعد الاستعمار. فجمعُها بعد الاستعمار يكون صعبا . ولكن عندما يكون هناك استعماران فالقضية تصبح أفضع وجد معقدة، وتأخذ وقتا طويلا جدا . ولدينا في هذا الشأن مثال بسيط . فبعد الاستقلال ، أي في سنة 1956، بقيت  طرفاية تحت الاستعمار الاسباني الذي غادرها سنة 1958 بينما هي جزء من الساقية الحمراء . تم استرجاع هذا الجزء من الصحراء المغربية المستعمرة من طرف اسبانيا نفسها . ثم جاء بعدها التنازل عن مدينة سيدي إفني لتلتحق بحظيرة الوطن سنة 1969 .

فاسترجاع طرفاية التي هي جزء من منطقة الساقية الحمراء كان من المنطقي أن يتم معه استرجاع كل المنطقة وما يرتبط بها جنوبا ، أي كل أجزاء الصحراء المغربية .

يقول علال الفاسي بهذا الصدد في إحدى خطبه احتفالا بذكرى وادي المخازن مؤكدا حقيقة ومتانة ارتباط كل أجزاء المغرب بعضها ببعض:

” …، وإن الاعتراف بطرفاية كإقليم مغربي لهو نفسه دليل على أن الأقاليم التي تحت النفوذ الإسباني في إفني ووادي الذهب هي جزء من المغرب لأنها جزء من طرفاية، كما تنص على ذلك المعاهدة المغربية البريطانية والنظام الذي كانت اسبانيا نفسها قد وضعته إبان الحرب الكبرى “.

إن احتلال المغرب من طرف سلطتين استعماريتين جعل حصوله على الاستقلال يمر بمراحل متعددة وفق حسابات كل من هاتين السلطتين . الأمر الذي طبع العملية بكل ما عرفته من الصعوبات وما خلفته من مشاكل جلاء الاستعمار عن مجموع الأراضي المغربية .

إذن يمكن أن نقول أنه لو كان المغرب قد خضع لاستعمار واحد لأعاد له هذا الأخير كل الأراضي التي سلبها منه أو أضاف إليها أجزاء أخرى كما فعل في الجزائر. لكن تاريخ المغرب وموقعه الجغرافي الذي جعل منه الحصن الحصين ضد الهجومات الغربية المسيحية أو ضد العثمانيين كان سببا وراء تجزئته من أجل إضعافه والتحكم فيه. وذاكرة الهزائم لا تزول.

إن ما يفسر الوضع الاستعماري المزدوج للمغرب أو ، إن صح التعبير، توزيع أراضيه بين القوى الاستعمارية ،  هو طريقة تفكير الغرب الذي يرغب في إخضاع الجميع لرغبته وبدون طلب رأيهم . وهذا التفكير ينبثق مباشرة من الهياكل السياسية والدينية الموروثة من عهد النهضة. وكانت هذه العقلية مشتركة بين أولئك الذين احتلوا أو استعمروا المغرب . ومع الأسف تركت آثارا عميقة في مكونات مجتمعنا والتي ينبغي أن نكافح ضدها لتحرير أنفسنا اليوم . وما قرأته مؤخرا لأحد المفكرين وجدت أنه صحيح ومبرر، حيث يقول : ” من المثير للسخرية أن نفس الدول الأوربية التي كانت وراء إنشاء نظام فوضوي ما بعد الاستعمار هي أقوى الداعمين للحركات الانفصالية في جنوب المغرب …”

ينبغي الاستمرار مهما كانت الظروف والنتيجة . النجاح لا يتحدد بعدد المرات التي نسقط فيها ، ولكن بعدد المرات التي نعود فيها إلى المحاولة. اولئك الذين حققوا التميز قد فشلوا قبل ذلك أكثر من غيرهم.

اختار حزبنا كشعار للذكرى 49 لوفاة الزعيم شعار ” العدالة المجالية في فكر الزعيم علال الفاسي “.

ما أثار لدي هذه الملاحظات وهذه الخواطر هو ما وجدَتْه مؤسسة علال الفاسي من رسائل ومذكرات كانت بين علال وشخصيات متعددة من بينها على الخصوص صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني طيب الله تراه. ومن جملة هذه الوثائق ، مذكرة مرفوعة إلى جلالة الملك حول تندوف وكان آنذلك وزيرا للدولة في الشؤون الإسلامية. وهذا يؤكد أكثر من أي شيء أن علال لا ينسى مهما كانت الظروف قضية الوحدة الترابية. وأقدم بمناسبة ذكرى وفاته رحمه الله التاسعة والأربعون هذه المذكرة الهامة والتاريخية آملا من الله عز وجل أن يعين وطننا على استرجاع كل أراضينا المغتصبة.

 المذكرة حول تندوف (1962)

الحمد لله وحده

نعم سيدي أعزكم الله

أتشرف بأن أرفع لجلالتكم النقط التالية فيما يخص قضية تندوف.

 

  • حينما دخل الإسلام

حينما دخل الإسلام للمغرب كان سكانه كلهم تمازيغت ، ولم يكد مولاي إدريس يستقر بزرهون حتى توافدت عليه وفود من مسلمي الصحراء.

  • وقد اعتنى هو وابنه إدريس الثاني عناية بالصحراء.
  • وقد سمى إدريس الثاني عامله عبد الله بن إدريس على سوس، فأسس مدينة : (تميدلت) في بحر الصحراء كنقطة اتصال لموسم التجارة، فكانت مركزا عظيما للدولة الإدريسية.
  • وفي القرن الثامن تهدمت هذه المدينة وكانت هناك مدينة أقدم من هذه تسمى: “يشيخية ” بنواحي كلميم ، اضمحلت قبل القرن الحادي عشر.

وقد حلت محل هاتين المدينتين المتعاقبتين مدينة تندوف . لتقوم مقام تميدلت في نسخة الاتصال التجاري والثقافي في جنوب المغرب الصحراوي وباقي المملكة.

وفعلا أدت هذه المهمة زهاء المائة سنة.

وتقع تندوف على بعد 300 كيلومتر من مدينة تميدلت العتيقة. وتعد من القبائل السوسية ، بين الأطلس الصغير والصحراء الكبرى.

  2- تأسيس تندوف مرة ثانية:

كانت قبيلة تجكنت متوزعة المساكن تقطن في ( شمامة )، وهي أقطار مختلفة في نواحي صحراء المغرب.

وقد أنجبت العلامة  ابن الأعمش فامتاز بعلمه وحصل في وقته على : ( ظهير الامتياز ) ، فأعطاه ذلك منزلة عند أبناء عمه في ( زمور) .

وقد ورث ذلك عنه ابنه محمد المختار الذي اصبح رئيسا لتجكنت.

 كما عينه الملك قاضيا على المراكز التي تمتد من تندوف إلى مدينة فم الحصن.وهو الذي أعاد تأسيس مدينة تندوف لتقوم بدورها التجاري والثقافي والتاريخي.

وتوفي سنة 1285 هجرية . وقد عين جلالة الملك الحسن الأول ابنه السيد أحمد دكنا مكانه في القضاء على مدينة تندوف وفم الحصن .

وقد أصابت الفوضى والدسائس الاستعمارية هذه المدينة فخربت تقريبا.

وفي سنة 1350 هجرية عاد إليها الازدهار، وعين جلالة الملك عليها واحدا من آل ابن الأعمش.

كما عين عليها قاضيا هو السيد منشلا بن أحمد دكنا . وظلت تابعة لفم الحصن التي تبعد عنها بزهاء 250 كلم.

وفي سنة 1937 م حينما نقلت للمنفى بالجابون نزلنا فيها صحبة الضابط الفرنسي روكس ، على أنها من مدن المغرب التابعة لتيزنيت. وقد تلقى حاكمها الأمر من المقيم العام الجنرال نوجيس لمقابلتنا، ونقلنا في سيارة عسكرية عبر الصحراء.

واستمرت تندوف تحكم من الرباط ويعين ولاتها منه.

وفي سجل المحكمة العليا الشريفة أحكام جنائية وغيرها على بعض المواطنين من تندوف أرسلت إليها للاختصاص ، كما هي العادة في جميه أقاليم المغرب.

وقد افتتح الفرنسيون تندوف باسم المغرب سنة 1934 م بقيادة الجنرال ترانكي الذي توجه بفصائل من جيش الحماية، وفعل ذلك باسم جلالة الملك ، وتأمين المملكة الشريفة، تطبيقا لمعاهدة 1912م، فيما يزعمون.

3- تحكم الاستعمار الفرنسي بفصل تندوف عن الحكومة المركزية بالرباط

وفي سنة 1952م سدت الأبواب بين تندوف وبقية جهات المغرب، وألحقت بالقطر الصحراوي التابع لوالي عام الجزائر.

وقد قامت ضجة كبرى من السكان، وتوافدت وفود على الرباط تشتكي.

ولا يزال آل الأعمش، ومن بينهم الشيخ الجكيني المقيم بأكلميم لاجئين ينتظرون تحرير وطنهم.

وقد اعتقل الكثيرون من ءال الأعمش ، ومن بينهم قائد جلالة الملك في القصور والمساجد التي بنونها.

وفي كل المناسبات ترد الوفود الجكينية مجددة بيعتها لجلالة الملك.

مع كامل الإخلاص لجلالتكم

علال الفاسي

وزير الدولة المكلف بالشؤون الإسلامية

 

لا يمكن أن نتطرق لهذا الموضوع في هذه الورقة ، ولكن ما نستخلص حول المجال هو أنه بالنسبة لعلال الفاسي لا يمكن أن نتكلم عن العدالة المجالية إلا إذا كان المغرب بأكمله وإلا ستكون ناقصة كما هو الأمر بالنسبة للاستقلال.

” المغرب المحرر لا يمكن أن يكون ضد المغرب المحتل ” (علال الفاسي: لكي لا ننسى).

ولهذا ، فمهما كانت الظروف ، فإنه لا تمر عليه دقيقة إلا وهو يفكر في وحدة البلاد. وفي الأخير أريد أن أقدم فقرة من فصل في كتاب للأستاذ عبد الكريم غلاب . الفصل الذي يحمل عنوان ” ضميره الصحراوي ” ، ويعني به ضمير علال الفاسي. وهذه الفقرة تؤكد ما سبقت الإشارة إليه وتقول :

” ورغم ما منيت به  قضية الصحراء من تهاون وانهزامات ، فقد كان الرجل – كما عرفناه دائما – الذي لا ينفذ إلى قلبه اليأس . ولذلك ظل يناضل في كل الجبهات الرسمية والشعبية مع الصحراويين ومع غير الصحراويين.

ظل يناضل حتى النفس الأخير. وما زلت أذكر كيف كان يتصل مع بعض المسؤولين الإسبانيين ، وبعض الذين كانوا مسؤولين ، وكيف سافر عدة مرات إلى مدريد واتصل مع رجال الحكومة الإسبانية محاولا أن يصل إلى نتيجة ملموسة، وكان في الحقيقة ينجح في تقريب وجهات النظر بين الحكومتين المغربية والإسبانية – وهو يقود حزب المعارضة – بما يضمن استرجاع الصحراء ، نظرا للمكانة التي كانت له في قلوب الجميع .

ومنذ سنتين حينما داهمته الأزمة القلبية الأولى في مايو 1972 كان على موعد مع بعض المسؤولين الإسبانيين : موعد سري حتى عن بعض رجال الحكومة الإسبانية  من المتطرفين ضد المغرب ، وكان سيصحبه الأخ امحمد بوستة . وفتح عينيه بعد يومين من الأزمة الحادة ، ووجوه الأطباء تعلوها مسحة من اليأس القاتل ، رغم الابتسامة المصطنعة ، فتح عينيه على وجه الأخ بوستة ، وارتسمت على وجهه السمح ابتسامته العذبة وتمتم بين شفتيه في صوت مسموع : أيك أن تنسى موعد 19 مايو لابد أن تذهب ، إن لم أستطع أنا فكن أنت في الموعد المقرر” .