الرئيسية / أخر المستجدات / ما وراء خشية أمريكا من الصين وروسيا؟

ما وراء خشية أمريكا من الصين وروسيا؟

د عبد الإله بلقزيز/

لم تكن الولايات المتحدة  تخشى تنامي العلاقات الروسية – الصينية يوماً مثلما باتت تخشى ذلك في الأعوام العشرة الأخيرة. صحيح أنها تنبهت إلى مخاطر التقارب بين البلدين على نفوذها منذ وقت مبكر، منذ نجاح الثورة الصينية، في العام 1949، وبداية استشعارها خطورة تشكيل جبهة شيوعية عالمية ضد الغرب تمتد من بحر الصين إلى برلين، ولكنها اطمأنت – في فترة مديدة – إلى ما في جوف العلاقات بين البلدين من خلافات إيديولوجية وسياسية عميقة تبدت في مناسبات عدة، بدءاً من نهاية النصف الأول من ستينات القرن الماضي، واتضحت – تماماً – عندما وصلت إلى عتبة القطيعة. ثم أتى انهيار الاتحاد السوفييتي، في بداية التسعينات، يولِد الشعور بزوال الخطر. لكن استعادة روسيا عافيتَها الاقتصادية والعسكرية، والصعود المدوي للصين، وعودة التقارب بين البلدين، في نهاية العقد الأول من القرن الحالي، بعث الحياة في المخاوف الأمريكية من جديد إلى حدودٍ بِتْنا نَلْحظ فيها تنامياً لفوبياء أمريكية تجاه البلدين معاً!

لهذه المخافة الأمريكية من حلفٍ روسي- صيني، أسبابٌ عدة تبرر الإفصاح عنها – وخاصةً هذا النوع من الإفصاح المتوتر في امتداد العملية الروسية في أوكرانيا والاستقطابات التي أنْتجتْها- نكتفي بالإشارة إلى أربعةٍ منها هي أَظْهَرُها:

أولها ما بين البلدين من مشتَركات في المواريث السياسية وفي خبرة الصراع مع دول الغرب، إذْ جمع بين الدولتين – على ما كان بينهما من خلافات عدة – الانتماءُ إلى جبهة واحدة (شيوعية) ذات تقاليد عريقة في الصدام مع بلدان الغرب: مباشرةً أو بشكل غير مباشر (كوريا، فيتنام، «الشرق الأوسط» …). ولقد أَورثتْ تلك التقاليد نزعةً عميقة في روسيا والصين إلى مناهضة السياسات الليبرالية في الغرب، وخاصةً في وجهها الجديد السائد – منذ الثمانينات-: الليبرالية المتوحشة. وإذا كانت روسيا قد أصابها أذى مباشرٌ منها في العهد البائس لبوريس يلتسين ومافيا الفساد (بُعَيْد سقوط الاتحاد السوفييتي)، فإن الصين تسلك نهجاً وقائياً ورقابياً من هذه الليبرالية ومن قواها منذ هزةِ أحداث تمرد ساحة تيان آن مِين، بل من طريق إشراف «الحزب الشيوعي» على السلطة وعلى إدارة عملية التنمية. لذلك، ستبقى روسيا والصين – و«حتى إشعارٍ آخر» – عدويْن للغرب وليبراليته في نظر الولايات المتحدة الأمريكية.

وثانيها أن بين أمريكا والدولتيْن مشكلاتٍ لا حصر (الدعم الأمريكي لأوكرانيا في ما يشبه المشاركة في محاربة روسيا بالوساطة، توسيع نطاق انتشار المنظومة العسكرية للأطلسي إلى الجوار الروسي المباشر، العقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا، الحرب التجارية والعلمية والتقانية بين أمريكا والصين منذ سنوات، الدعم الأمريكي للنظام في تايوان والتحرُش المستمر بالصين في مجالها الحيوي: بحر الصين…إلخ). ومن النافل القول إن مثل هذه المشكلات – وغيرها – سيظل يرفع من معدل المخاوف المتبادلة بين أمريكا والدولتين.

وثالثها يقين أمريكا بأن اجتماعَ نظامٍ سياسي ذي مشروعٍ نهضوي وتنموي ضخم وبلدٍ غني بالموارد السكانية والثروات الطبيعية الهائلة والكفاءات العلمية الرفيعة المستوى، ومجتمع ذي ميراثٍ تاريخي عظيم وتراثٍ ثقافيٍ ثَر، لَهُوَ أمرٌ لا محالة مُفْضٍ إلى إنجاب قوة عظمى يُحْسَب لها حساب في عالم اليوم. وإذا كان يخيف واشنطن أن تجتمع المواردُ تلك جميعُها في كلٍ من الصين وروسيا على حِدَة، كما هي اجتمعت حقاً في كلٍ منهما، فكيف إذا انعطفتِ العلاقات الثنائية بالبلدين إلى عتبة التحالف الاستراتيجي الذي يخيف أمريكا والغرب، لأنه – بكل بساطة – سيُحدِث الانقلاب الهائل في توازن القوى على الصعيد العالمي، وخاصة في ضوء الحقيقة الذي لم يعُدِ الأمريكيون – ولا الغربيون إجمالاً- يَقْوَوْن على إخفائها، والتي مفادها أن الصين وروسيا هما، اليوم، من أسرع البلدان الكبرى نمواً في العالم.

أما رابعها فيتصل بالإدراك الأمريكي الحاد للطموح الاستراتيجي المشترك بين الدولتين في بناء نظامٍ دولي جديد أكثر توازناً من القائم اليوم. وهو طموح ما عادتا تُخفيانه ولا تحتكران التعبير عنه، بل تعرف واشنطن أنه يخامر معظم دول العالم (التي تقع خارج الغرب الأمريكي- الأوروبي)، ويَلْقَى لديها الترحيب المتزايد ، وبالتالي، الاستعداد للدفاع عنه (مثلما يحدث في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة). لكن أكثر ما يخيف واشنطن، هنا، هو رؤية بكين وموسكو تصنعان لنفسيهما الأحلاف الدولية المناسبة لترجمة ذلك الطموح: من «منظمة شنغهاي للتعاون» – وهي تضم، اليوم، تسع دول – إلى مجموعة البريكس (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، إفريقيا الجنوبية). تنظر إلى ذلك، بقلق شديد، لِمَا فيه من تفتيتٍ متدرِج لأركان النظام الدولي القائم.

 

[email protected]