الرئيسية / أخر المستجدات / الفساد.. ظاهرة أخلاقية أم سياسية؟

الفساد.. ظاهرة أخلاقية أم سياسية؟

د عبد الإله بلقزيز/

لا تنشأ ظواهر الفساد ولا تستشري ويعظم خطرها إلا في البلدان التي تقوم فيها أنظمة سياسية مجردة من أسباب الرقابة والمحاسبة.

واحدة من أفتك الآفات بأي نظام سياسي هي آفة الفساد؛ الآفة التي تضع الحقوق والمصالح الجمعية للدولة والمجتمع أمام النهب والتبديد من قبل حفنة من المتنفّذين، المتصرفين في أملاك الدولة والشعب من غير رقابة تردعهم ومحاسبة تسائلهم.

والفساد أنواع: سياسي وإداري ومالي، ودرجات خطورتها واحدة وإن كان أكثر الانتباه يشد في العادة إلى الفساد المالي لحساسية الإثراء الفاحش في أي مجتمع، وخاصة في المجتمعات التي تعاني شعوبها وطأة الحاجة والفقر والتهميش مثل مجتمعاتنا العربية.

لا عجب إذن إن كان الفساد في أساس موجات الاحتجاج في ما يسمى «الربيع العربي»، والدعوة إلى محاربته، وإسقاط رموزه وسوقهم إلى العدالة، من أكثر الشعارات التي دوّنتها لافتات المحتجين، وصدحت بها ملايين أصوات المتظاهرين في الساحات والميادين وكبرى شوارع مدن ذلك «الربيع» في الأعوام الثمانية الماضية.

من النافل القول إن ظاهرة الفساد تقبل أن تقرأ بوصفها ظاهرة أخلاقية ابتداء. وما من شك في أنها حصيلة فقر حاد في التشبع بقيم الفضيلة والعفة والكفاية المقرونة بمستوى الجهد المبذول من أجل الكسب المشروع؛ لذلك ذُمّ الفساد دائماً في تعاليم الأديان وفي الفكر الأخلاقي، لكن الفساد ظاهرة سياسية في المقام الأول، أكثر منها أخلاقية أو تربوية. إنه تعبير عن ضعف أو غياب قيم المسؤولية والمصلحة العامة عند الذين يأتونه، وآية ذلك أن من يأتونه ليسوا دائماً ممن تنقصهم التربية وقيم الفضيلة؛ بل قد يكون بعضهم ممن له حظ منها. وقد تنبه أرسطو إلى ذلك مبكراً، حين ميّز بين المواطن الصالح ورجل الدولة الصالح، فبين أن الأول منهما قد لا يكون رجل دولة صالح، وأن الأخير قد لا يكون في الأساس مواطناً صالحاً؛ إذ الفضيلة في الأخلاق العامة غير الفضيلة السياسية، وهو إنما عنى أن رجل الدولة أياً تكن أخلاقه تتحدد فضيلته السياسية انطلاقاً من روح أدائه.

قلنا إن الفساد تعبير عن نقص فادح في قيم المسؤولية وخدمة المصلحة العامة. والذي يأتيه إذ يُخل بواجب وطني (المسؤولية أمام القانون والدولة والشعب)، وإذ یُحِّل مصلحته الشخصية محل المصلحة العامة، يضع نفسه حكماً خارج الجماعة الوطنية وفي مقابل الحقوق والمصالح الجمعية، وبالتالي يصبح تحت طائلة العقاب على الإخلال بالواجب والمسؤولية. ولقد نجد من يعزو جنوح امرئ أو جمع إلى الفساد إلى تكوينه وأخلاقه، أو من يفسر ذلك الجنوح بضعف معنوي (ضعاف النفوس) أمام المال أو أمام النفوذ؛ لذلك كثيراً ما نسمع من يقارب المسألة انطلاقاً من الحاجة إلى تفعيل قاعدة «الرجل المناسب في المكان المناسب». والحق أن في هذا التفسير قصوراً في إدراك الظاهرة والآليات التي تولدها، كما أن القاعدة المشار إليها لا يستقيم العمل بها إلا متى كان المتصدر للمسؤولية غير أهل لتقلدها؛ أي غير ذي تكوين وتأهيل كافيين لتقلدها، وآية ذلك أنها لا تنطبق على من هو أهل بمقياس علمي ومهني للتكليف. ولكن ماذا لو كان الرجل المناسب غير مناسب، فانزلق إلى الفساد؟ ألا يحدث ذلك كثيراً؟ لذلك لا مجال لربط الفساد بالطبائع الأخلاقية للفاسدين والمفسدين أو بنوع التربية التي تلقوها؛ بل لا بد من البحث عن العوامل والآليات السياسية التي تصنعه أو على الأقل تشجع عليه أو تفسح المجال أمام إمكانه.

لا تنشأ ظواهر الفساد المالي والسياسي والإداري حسبما تفيدنا بذلك تجارب النظم السياسية في العالم المعاصر، ولا تستشري ويعظم خطرها إلا في البلدان التي تقوم فيها أنظمة سياسية مجردة من أسباب الرقابة والمحاسبة. لا نقصد هنا مؤسسات الرقابة الإدارية التي تحدثها الحكومات والسلطات التنفيذية، فهذه تكاد تكون موجودة في دول العالم كافة، وإنما نقصد هنا مؤسسات الرقابة الشعبية: مؤسسات تمثيلية (برلمانات) وصحافة حرة، ومراصد للفساد مستقلة، وجهاز قضائي إداري خاص بالنظر في المخالفات المالية والإدارية، ولجان لمراقبة نزاهة الانتخابات والبت في خروق التزوير واستخدام المال السياسي..

إن مثل هذه المؤسسات الرقابية هو ما يردع الفساد ويحمي المجتمع والدولة من غائلته، وهو ما يميز البلدان الديمقراطية في منعها الفساد واجتثاثه، والتحرر من ثقل آثاره المدمرة للثروة والمال العام. وحين لا تجد النخب المتنفّذة في دولة ما، مثل هذه المؤسسات التي تراقب وتحاسب وتسوق المرتكبين إلى العدالة وتحمي حقوق المجتمع والدولة من السطو والنهب، فإنها تعثر على البيئة المناسبة للإثراء غير المشروع وتتعامل مع الدولة والمصالح العامة وكأنها متاع شخصي.

من البيّن إذن أن الفساد ظاهرة سیاسية أو قل تتولد من عوامل سياسية أهمها ضعف الرقابة والمحاسبة أو غيابها. والمشكلة تعظم أكثر حين يستفحل أمر الفساد فيستعصى على أي استيعاب بسياسات زاجرة؛ بل يخطو نحو أن يصبح نظاماً كاملاً له أجهزته ورجالاته ومافياته المحمية، بحيث لا يقوى أحد على الاقتراب من هیكله.

[email protected]

اترك تعليقاً