الرئيسية / أخر المستجدات / الأسئلة المقلقة عن أزمة الغذاء: ما هدف التعامي الدولي عن أسبابها الجذرية؟
أزمة الغذاء

الأسئلة المقلقة عن أزمة الغذاء: ما هدف التعامي الدولي عن أسبابها الجذرية؟

رزان زعيتر/

ما يزال خلط الأوراق، وذر الرماد في العيون هو سيد المشهد عندما يتحدث المجتمع الدولي عن أزمة الغذاء، فهو يتباكى على الجوعى الحاليين والمستقبليين في العالم متذرعا بمسببات واهية لتلك الأزمة؛ فمرة يلوم جائحة صحية بالكاد تجاوزت العامين، ومرة أخرى يرد الأزمة لظرف سياسي عمره أشهر…
هل فعلا أزمة الغذاء جديدة؟ وهل هي محض صدفة؟
مثلا هل كان محض صدفة استهداف القوات الجوية الأميركية لـ 300 هكتار من الأراضي الزراعية المغطاة بمحاصيل القمح في سورية في عام 2020، وانفجار ميناء بيروت وتدمير صوامع القمح فيه عام 2020 هل هو أيضاً مصادفة أو بالنسبة للـ 12 حريقاً التي اندلعت في محافظة صلاح الدين في العراق في عام 2021، وحرق 90 فداناً من الأراضي في السودان لمرة جديدة في عام 2020.
وفي ذات السياق، أكاد أسمع التونسيين يتساءلون، إن كانت مصادفة حرائق المحاصيل في عام 2019، وقبل أسابيع قليلة فقط أحرقت قوات الاحتلال في بلدة قصرا بنابلس (فلسطين) محاصيل القمح، هل كان اختيار تلك الأرض بالذات عشوائياً؟
يجب أن نسأل ما إذا كانت مصادفة أن تكون 12 من أصل 15 دولة تعاني من انعدام الأمن الغذائي هي في إفريقيا والمنطقة العربية ، وهل هي مصادفة عفوية أن تكون هذه المناطق هي ذاتها الأغنى من حيث الموارد الوطنية؟!
وعند الحديث عن روسيا وأوكرانيا، ألا يجدر بنا الانتباه لتزامن الحدث مع حرائق الغابات الهائلة في مصر التي التهمت 76 طناً من القمح.

ومن ذلك المنطلق، نتساءل “هل أزمة الغذاء العالمية جديدة”؟ ان أسعار المواد الغذائية العالمية ارتفعت خلال العشرين عاماً الماضية، وان دوافع هذا الارتفاع هي ذاتها لأزمتي الغذاء في عامي 2008 و2011 والتي يمكن إجمالها بارتفاع أسعار الوقود، والمضاربات المالية، والحروب الإمبريالية، حيث تعمل هذه العوامل على زيادة أسعار الغذاء اليوم. وقد أظهرت الانتفاضات في سريلانكا وباكستان ومصر بالفعل أوجه التشابه الصارخة التي رافقت الاحتجاجات الضخمة المتعلقة بأسعار الغذاء في عام 2008.
يقودنا الحديث بالضرورة، لتحديد الأسباب الجذرية لهذه الأزمات الغذائية المزمنة والمستمرة مثل: تسليع الأراضي، وزيادة أسعار الأراضي الزراعية التي وصلت إلى ذروتها في العقود القليلة الماضية، مما أدى إلى زيادة 122 % في عدد صفقات الأراضي من عام 2011 وحتى 2020. وفي الأشهر القليلة الماضية فقط، وقعت العديد من الدول اتفاقيات جديدة مع دول في الخليج لإنتاج وتصدير المواد الغذائية وتأجير الأراضي، وتشمل هذه البلدان تونس وغانا وتنزانيا والسودان؛ كما وقعت شركة زراعية في باكستان مؤخرا صفقة بقيمة مليار دولار مع شركات صينية وخليجية. هذا الوضع يعني قيام عدد قليل من الملاك والشركات العملاقة بتشغيل حصة كبيرة بشكل متزايد من الأراضي الزراعية في البلدان الفقيرة.
كما تسببت الحروب والصراع والاحتلال بانهيار النظم الغذائية، حيث يعيش 60 % من الجياع في العالم في البلدان المتأثرة بالصراعات، وحاليا يقطن أكثر من نصف الـ 124 مليون شخص، الذين يعانون من الجوع الحاد، في أجزاء من العالم تشهد قتالا أو عنفا. والجدير بالذكر أن الزراعة والتجارة تعطلت في البلدان المتضررة من النزاعات، ويمكن أن يكلف طبق الطعام أكثر من أجر اليوم لسكان هذه المناطق؛ ففي أفغانستان مثلاً، 93 % من السكان يواجهون الجوع، وهناك 90 % زيادة في الجوع في العالم العربي بسبب الحروب والصراعات والاحتلال.
بالتأكيد لا يمكن القفز عن الدور الناجم عن تغير المناخ في تعطيل إنتاج الغذاء، حيث فقد كوكب الأرض 12 مليون هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة كل عام، بسبب الجفاف والتصحر على مدى السنوات الأربعين الماضية، كما فقد ثلث الأراضي الصالحة للزراعة بسبب التعرية والتلوث. علاوة على ذلك شهد العالم تحولا نحو الاستهلاك غير المستدام والأنظمة الغذائية غير الصحية، وزاد استهلاك اللحوم بشكل كبير، مما أدى إلى آثار بيئية هائلة وضغط على الموارد الإنتاجية.
ها هي البرازيل، الدولة الضخمة، تتجلى فيها الأزمة الغذائية المزمنة. المفارقة أن البلد اقترب في وقت سابق من مرحلة القضاء على الجوع من خلال تطبيق مبادرة صفر جوع، إلّا أنه حاليا يعاني 19 مليون برازيلي من الجوع!
نعتقد ان أهم أسباب ضعفنا أمام الأزمة الغذائية هو مرتبط بانعدام السيادة الغذائية وباستعبادنا من قبل نظام السوق العالمي، وانعدام ارادتنا السياسية لمقاومة تدمير أنظمتنا الغذائية المحلية من قبل القوى الاستعمارية لا سيما الجديدة منها والتي تمارس ضغوطا كبيرة لتهميش قطاعاتنا الزراعية، ومنها بلا شك الجهات الفاعلة القوية والمؤسسات المالية الدولية.
إذا أزمة الغذاء ليست جديدة، لكنها استمرت وتصاعدت بفعل الأحداث العالمية مثل جائحة كورونا؛ ففي الفترة ما بين أيار( مايو) 2020، وشباط (فبراير) 2022، ارتفع مؤشر منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة “FAO” لأسعار الغذاء بنسبة 55.2 %، حيث شهدنا بداية ارتفاع في أسعار زيوت الطعام بنسبة
159.4 %، تلاه تصاعد حاد في أسعار السكر ومنتجات الألبان والحبوب، كما انهارت في الجائحة سلاسل التوريد العالمية والمحلية، ولم تسلم سلاسل الإمداد الغذائي من التضرر مع إغلاق الموانئ والمطارات والارتفاع الجنوني لتكاليف الشحن، والاضطراب الكبيرة في حركة العمال المحليين والمهاجرين الذين يلعبون دوراً رئيسياً في الإنتاج الزراعي. ونتيجة لذلك، زادت قيود الصادرات خلال الجائحة؛ فأدت المخاوف بشأن توافر الغذاء إلى قيام البلدان المنتجة للحبوب بفرض قيود على صادراتها مثل فيتنام التي كانت تمتلك 16 % من صادرات الأرز العالمية قبل الوباء، وتأخرت بمنح شهادات تصديره حتى نهاية نيسان (أبريل) 2020. بالمثل أوقفت كازاخستان تصدير العديد من منتجات الحبوب والبذور الزيتية والخضروات حتى 30 حزيران(يونيو) 2020، بينما وضعت روسيا قيوداً على تصدير مواد مثل القمح والذرة. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ ارتفعت أسعار الأسمدة بسبب ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي؛ فارتفع متوسط سعر الغاز الطبيعي الشهري، وفقاً لمؤشر الغاز الطبيعي للبنك الدولي بنحو 600 % بين حزيران (يونيو) 2020 وكانون الأول (ديسمبر) 2021.
بالتأكيد فان الحرب الروسية الاكرانية ووفقاً للـ FAO، ساهمت برفع أسعار المواد الغذائية بنسبة 12.4 % في آذار(مارس) 2022 عنها في شباط (فبراير) 2022، ومن المحتمل ألا تكون هذه الزيادة الأخيرة، خاصة مع استمرار الصراع، لا سيما وأن روسيا وأوكرانيا تعتبران أكبر مصدرين في العالم للشعير والذرة وبذور اللفت ودوار الشمس وزيته والقمح وكذلك الأسمدة، وتمثل أوكرانيا مصدر ما يقرب من 10 % من صادرات القمح العالمية، ومع اندلاع الحرب على أراضيها، وانهيار وسائل النقل الداخلي، وإغلاق موانئها البحرية، تعطلت شحنات صادرات البلاد. كما تمثل أوكرانيا أكثر من ربع إنتاج العالم من بذور عباد الشمس، وتزيد المخاوف مع تعطل إمداداته بارتفاع أكثر في أسعار زيوت عباد الشمس على وجه التحديد، وبدائله أيضاً.
وعلى الصعيد الروسي، تعتبر موسكو أيضاً من المصدريين الرئيسيين في العالم، ولها حصص كبيرة في الإنتاج العالمي للشعير وصادراتها تمثل 18 % من صادرات القمح العالمية. لقد أدت الحرب أيضا إلى ارتفاع تكلفة إنتاج الغذاء لأن روسيا وأوكرانيا تصدران 28 % من أسمدة النيتروجين والفوسفور، و40 % من البوتاس، ووحدها روسيا تصدر 48 % من نترات الأمونيوم على مستوى العالم و11 % من اليوريا. ان ارتفاع أسعار الأسمدة قد يؤدي إلى انخفاض استخدامها، وبالتالي تقليل إنتاجية المحاصيل لدى مستوردي الأسمدة الرئيسيين، خصوصاً أن الشحنات من روسيا وبيلاروسيا تواجه اضطرابات بسبب العقوبات. ومع ذلك فان ربط ازمة الغذاء العالمية فقط بالحرب الحالية بين روسيا وأوكرانيا ليس موضوعياً وفيه نستشعر كما دائما ازدواجية المعايير.
في سياق التأثر الإقليمي بأزمة الغذاء، نعتبر منطقتنا العربية الاكثر تاثرا بالأزمة فهي أكبر مستورد للقمح في العالم، حيث نستورد 30 % من انتاج سوق القمح العالمي، والمفارقة المحزنة أن منطقتنا زرعت أول بيادر قمح في التاريخ، وكان في العراق اول انتقال للبشرية من جمع الثمار والصيد الى الزراعة والاستقرار. في يومنا هذا تراجعت عملية الزراعة بشكل ممنهج حتى بتنا نستفيد من 30 % فقط كحد أقصى من الأراضي الصالحة للزراعة في الاقليم! في مصر مثلاً حيث يُعرف الخبز باسم عيش، أي “حياة”، نظراً لأهميته، أسعاره ترتفع بشكل كبيرالآن، حيث تعتبر مصر أكبر مستورد للقمح في العالم، ويأتي ما يقرب من 70 % من قمحها من روسيا وأوكرانيا. في مكان آخر، يستورد لبنان 52 % من حاجته من القمح من روسيا، ويأتي أكثر من ثلث القمح اليمني من منطقة البحر الأسود، بعد سنوات من الحرب التي دفعت الملايين إلى حافة المجاعة، يعتمد اليمن بشكل كبير على الخبز، حيث يشكل أكثر من نصف السعرات الحرارية للأسر المتوسطة.
إن أسعار الغذاء عند أعلى مستوى لها منذ عام 1990، وأن التضخم الذي طال أسعار الغذاء يؤثر علينا جميعاً، وعليه تكون البلدان ذات الدخل المنخفض، والمجتمعات والأسر الأكثر ضعفاً هي الأكثر تضرراً، وهذا يشمل صغار منتجي الأغذية من المزارعين والعمال الزراعيين والفلاحين المعدمين الذين يشكلون أكثر من ثلثي الفقراء الذين يعانون من الفقر المدقع في العالم. وإن كنت أسعى للإجابة على سؤالين (إن كانت أزمة الغذاء مصادفة، وهل هي جديدة؟) فإجابتي الصريحة أن الأزمة ليست من قبيل الصدفة، لأن الأسباب الكامنة وراءها هي في الغالب من صنع الإنسان، وهي بالتأكيد ليست جديدة لأن هذه الأسباب وآخرها أزمة كورونا والحروب الممتدة في المنطقة العربية كانت موجودة قبل الحرب الروسية الأوكرانية، وبالتالي أدت إلى العديد من أزمات الغذاء في الماضي، وستؤدي هذه الأسباب حتما إلى أزمات متصاعدة أخرى في المستقبل إذا فشلنا في معالجتها، وهذه الأزمة الوشيكة هي مجرد تذكير بأن السيادة الغذائية يجب أن تكون أولوية لأمننا الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
ولا أجد حلا للأزمة إلا بأن تصبح السيادة الغذائية والأمن الغذائي حقا يتمتع به الجميع، عبر حماية وتعزيز أنظمة الأغذية المحلية، وحق المجتمعات في امتلاك وإدارة الموارد مثل الأرض والمياه والبذور، وزراعة المحاصيل الغذائية الأساسية مثل الحبوب لتحسين الأمن الغذائي، وإعطاء الأولوية لها على المحاصيل المعدة للتصدير.
وتأتي أيضا في هذه الأوقات الحرجة الحاجة للعمل على بناء الاحتياطيات الغذائية، والاستثمار في استراتيجيات التكامل الإقليمي للأمن الغذائي، والاستمرار في حملاتنا وبقوة من أجل إنهاء الحروب والصراعات والاحتلال، وضرورة الدفع نحو إلغاء الديون المستحقة لمؤسسات التمويل الدولية والمقرضين الدوليين من المؤسسات المالية الخاصة، والتركيز على تحريك منظمات المزارعين والعمال، ومنتجي الغذاء والمنظمات النسائية والشبابية لتوحيد وتولي القيادة لدفع التحولات الاقتصادية والاجتماعية المطلوبة بشكل عاجل.
ا
(عن الغد)