الرئيسية / أخر المستجدات / الكتلة التاريخية

الكتلة التاريخية

عبد القادر الحضري/

إن مناقشة موضوع الكتلة التاريخية يمكن أن يتم من زوايا مختلفة، وذلك على اعتبار أنه مفهوم له أبعاد فلسفية وسياسية واقتصادية، كما أنه يمكن أن يتجسد على أرض الواقع بأشكال مختلفة حسب السياق الذي يتحكم فيه. ويبدو لي أنه من الأهمية بمكان الإشارة أولا إلى أنه مفهوم وُظِف أول الأمر مع غرامشي، وذلك بهدف تقريب الهوة التنموية وتجاوز الفوارق التي كانت قائمة بين شمال إيطاليا المصنع والمتقدم وبين جنوبها الفلاحي.

​         ويجب أن نُذَكِّر بأن مفهوم الكتلة التاريخية لدى الجابري، تم تقديمه كمقترح من طرف فيلسوفنا،  بعد أن قطع عدة أشواط في إنتاجه الفكري وبدل جهودا كبيرة على امتداد ما تجاوز النصف قرن، بغرض التعرف على الميكانزمات والضوابط المحركة للأقطار العربية والمتحكمة في ديناميتها، وذلك سعيا منه للعمل على تجاوز حالة الهشاشة والضعف والانهاك والتبعية التي تتخبط فيها، أي أن هذا المفهوم هو من ثمرات فكر الجابري وقد اتضحت لديه الرؤية وأشرف مشروعه على الاكتمال.

​         فما الذي يقصده الجابري بالضبط بهذا المفهوم؟ يجيب الجابري عن ذلك بقوله: “إن ما يحتاج إليه النضال العربي في المرحلة الراهنة هو في نظري شيء أقرب إلى ما سماه غرامشي ب”الكتلة التاريخية”، أي الكتلة التي تجمع فئات عريضة من المجتمع حول أهداف واضحة تتعلق أولا بالتحرر من هيمنة الاستعمار والإمبريالية السياسية والاقتصادية والفكرية، وتتعلق ثانـيا بإقامة علاقات اجتماعية متوازنة يحكمها إلى درجة كبيرة التوزيع العادل للثروة في إطار مجهود متواصل للإنتاج. وبما أن مشكلة التنمية مرتبطة في الوطن العربي بقضية الوحدة، فإن هذه الكتلة التاريخية يجب أن تأخذ بعدا قوميا في جميع تنظيراتها وبرامجها ونضالاتها.”

​         والملاحظ على هذا التعريف كونه لا يغفل عن أي بعد من أبعاد هذا المفهوم التي ذكرناها أعلاه، إذ ينطلق الجابري من بعدها الاجتماعي ليمر إلى البعد الاقتصادي والسياسي، كما يركز على الجانب القطري والقومي في ذات الآن. فالجابري في تعريفه عمل على أن يكون تعريفه شموليا، يتوافق مع مفاصل مشروعه الفكري.

​         وهذا التعريف الشمولي الذي قدمه الجابري، ينبع من التصور الذي ظل يدافع عنه منذ بدايات إنتاجه الفكري، والمتمثل في تجاوز عملية استيراد المفاهيم كما هي من سياقات ثقافية أخرى، دون إخضاعها لعملية النقد والتفكيك التي تكشف عن حدودها ونسبيتها، وهو النقد الذي يجعل من الممكن إغناء المفاهيم، حسب فهم الجابري، وتطعيمها بعناصر أخرى تجعلها مفاهيم قادرة على التفاعل الإيجابي مع الواقع الجديد الذي انتقلت إليه، بحيث يمكننا أن نقول بأننا إزاء مفهوم جديد كل الجدة رغم تشابه التسميات. وهذا ما ينطبق تمام الانطباق على مفهوم الكتلة.

​         وبما أن الكتلة تقوم على دمج المختلف من التيارات السياسية والفكرية والاجتماعية، فقد عمل الجابري على التأصيل لها من زوايا مختلفة، فإلى جانب التركيز على نسبة الفكرة إلى اليساري غرامشي، لم يهمل الجابري استعمال بعض المصطلحات التي تجعلها تلتقي مع تجارب في تاريخنا العربي الإسلامي، وذلك بالحديث عن المصلحة الموضوعية التي تحرك كل التيارات والتي تعبر عن شعارات الحرية والأصالة والديمقراطية والشورى والعدل وحقوق المستضعفين والأقليات وحقوق الأغلبيات.

وقائمة المصطلحات هذه التي رددها الجابري في أكثر من سياق، كان القصد منها المزج بين ما ينتمي للفكر الحديث وما ينتمي لثقافتنا العربية، وذلك بهدف تأكيد أننا إزاء تعاقد يرتكز ويتضمن القضايا الكبرى التي شابها الخلل والشطط، وبات من اللازم النضال المشترك بين كل الأطراف الذين كانوا عرضة للحيف والإقصاء، حتى يرتفع ذلك وتستعيد الأوضاع سلامتها واستقرارها، كما أن من أهدافه أن تجد كل التيارات صوتَها مُمَثَلا في هذا الإطار الجامع من خلال المفاهيم التي تحيل عليها، والتي تحضر في أدبيتها بشكل واضح. وهذا ما يمكن أن ندخله فيما يسمى ببيداغوجيا الإقناع.

​         لذلك يصر على أننا إزاء تعاقد لا مكان فيه للتراتبية، تعاقد لا يستثنى أي فئة ولا تنظيم، ويعمل على تجاوز التصنيفات الإيديولوجية ما دام المتعاقدون واعين ومقتنعين بفعالية النضال المشترك، لغرض قلب الموازين واستقامة المسار قطريا. وهو تعاقد لا يشترط على مختلف الأطراف التخلي عن إطاراتها الحزبية أو النقابية أو الجمعوية أو الحقوقية، ولا التخلي عن مسلسل برامجها النضالية. فقط عليها الوفاء والدعم للكفاح المشترك، من أجل فرض ما تم التعاقد عليه، كمهام استعجالية ينبغي عدم التقصير في خدمتها.

​         والغرض من كل ذك كما يوضحه الجابري بأسلوب أكثر تفصيلا هو بلورة تنمية متوازنة، الأساسي فيها الاستجابة لتطلعات وطموح الجماهير المتمثلة في: التعليم والصحة والشغل والعدالة الاجتماعية والسعي لبلورة الديموقراطية الحقيقية القادرة عل إفراز مؤسسات قوية، يتحقق من خلالها الاستقرار بمعناه الشامل، والاستقلال التام في ممارسة القرار، بعيدا عن أية تبعية اقتصادية أو سياسية أو ثقافية.

​         إن الجابري يرمي من خلال هذا المفهوم إلى تسهيل عملية التغيير وجعلها ممكنة، وكذا القضاء على كل الحواجز التي تقف في طريق التغيير، لذلك ينفي أن تكون هذه الكتلة جبهة معارضة لنوع من الحكم قائم، أو ضد أشخاص معينين. بل أكثر من ذلك يجعلها مفتوحة حتى في وجه من هم في السلطة. وهذا المنطق تحكمه الرغبة في إنقاذ السفينة وإيصالها إلى بر الأمان، لأن الظروف لا تسمح بالصراع داخل السفينة بين مختلف الفرقاء لتكون بهذا الشكل أو ذاك.

​ويمكن القول إن الجابري بهذا المنطق، يثبت أنه أصبح من الواجب تجاوز الخطوط الضيقة للانتماء السياسي أو الفكري أو الاجتماعي…، ويعمل من خلال طريقة بنائه لهذا المفهوم على نقل هذا السلوك الحضاري إلى الآخرين حتى تتوقف، كما يعبر هو عن ذلك، الأهداف السياسية والاجتماعية عن التغذي من الصراع الطبقي أو الطائفي أو الفئوي، ولكي تستقي وَقُودَها في ظل الكتلة، ليس من المصالح الطبقية وحدها، بل أيضا من الأهداف الوطنية التي يلتزم بها الجميع، أي أهداف الكتلة.

​         تلك هي الرهانات الأساسية والمركزية التي من أجلها طُرحت الكتلة التاريخية من طرف محمد عابد الجابري. ويمكن أن نوجز خصائص هذه الكتلة في كونها:

​         وطنية وقومية وتحررية وديمقراطية وتوافقية واستشرافية تركز على الأهداف وعلى المشتركات، وتعمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه في هذه الظرفية التي أصبح فيها الكل مهددا بالزوال.

​ولذلك يمكننا القول، بأنه لو أمكن تجسيد الكتلة التاريخية بالطريقة التي نَظَّرَ لها مفكرنا محمد عابد الجابري، فإنه لن يكون هناك عذر لأي طرف في ألا ينخرط فيها.

اترك تعليقاً