الرئيسية / أخر المستجدات / فشل العقوبات الاقتصادية: نموذج قانون قيصر
زياد حافظ

فشل العقوبات الاقتصادية: نموذج قانون قيصر

د زياد حافظ/

من الواضح أن الولايات المتحدة أصبحت عاجزة عن أقناع العالم بوجهة نظرها وعن فرض التغيير بالقوّة العسكرية فأصبحت تلجأ إلى الإرهاب الاقتصادي والآن الصحّي. و”الوجهة النظر” المقترحة ليست إلاّ الخضوع الكامل لمشيئتها في الهيمنة على مقدّرات العالم ومنع أي قوّة من تنافسها. كما أن سياساتها فيما يتعلق بالعلاقات مع العالمي العربي والإسلامي تهدف في الحدّ الأدنى إلى حماية الكيان الصهيوني وفي الحدّ الأقصى تمكينه من الهيمنة على مقدّرات المنطقة العربية الإسلامية. هذه السياسات لم تنجح ولن تنجح رغم الاحتلال والحروب بالواسطة وزرع الفتن بين مكوّنات شعوب المنطقة فكان لا بد من التصعيد في اتجاه الإبادة الجماعية كما فعلت مع السكّان الأصليين للقارة الأميركية. واداة الإبادة الجماعية خارج السلاح الدمار الشامل هو التجويع عبر الحصار وعبر منع وصول الأدوية عبر العقوبات التي تفرض على كل من يتعامل مع الدول المستهدفة. من هنا تأتي سياسة الحصار وفرض العقوبات الجماعية على الشعوب بحجة معاقبة النخب الحاكمة في الدول التي تحاول استكمال استقلالها السياسي والاقتصادي والأمني والثقافي. فالحصار على الشعوب والعقوبات التي تفرضها على هذه الدول هي عين الإرهاب الذي هو سلاح الضعيف واليائس.

لذلك ليست صدفة أن تتزامن طروحات الفدرالية في لبنان مع دعوات لإقامة تجمّعات مذهبية مناهضة للمقاومة ومع انتقادات لحزب الله من قبل بعض الأقلام المحسوبة على بيئة المقاومة وذلك عشية دخول القانون الأميركي “قيصر” حيّز التنفيذ. فالمسألة أولا وأخيرا مرتبطة بتوفير الأمن للكيان الصهيوني المترهّل والمترنّح تحت وطأة التناقضات الداخلية وفقدان مصداقيته الخارجية. فيتمّ ذلك الهجوم عبر اضعاف المقاومة وجّرها إلى سجالات لتصل إلى تصادم داخلي استطاعت حتى الساعة تجنّبه. وليس الارباك المسيطر على حكومة الدكتور حسّان دياب في مقاربة ملف قانون قيصر إلاّ دليلا على حجم الضغوط التي تمارس على لبنان. لم ترتكب حكومة الرئيس دياب أي “فَوْل” حتى الساعة غير أن ثقل ملف القانون جعلها يترنّح. فهل تقع وتسقط الحكومة ويدخل لبنان في المجهول إذا لم يستطع مجلس النوّاب التفاهم على بديل؟

لكن بعيدا عن هذه الاعتبارات لا بد من ابداء بعض الملاحظات حول القانون بحدّ ذاته. الملاحظة الأولى هي التذكير بالملتقى الافتراضي الذي عُقد في بيروت في 24 نيسان 2020 بدعوة من المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن والذي جمع أكثر من 300 شخصية من كل أنحاء الوطن العربي. والملتقى أصدر بيانا تحت اعلان بيروت يرفض سياسة العقوبات المفروضة على سورية وكل الدول بشكل عام التي تستهدف الشعوب للضغط على الحكّام لتغيير سياساتهم وفقا لإملاءات خارجية متحرّكة.

الملاحظة الثانية هي أن سياسة العقوبات لم تنجح في أي بلد إن لم تحظ بإجماع دولي كما حصل في جنوب إفريقيا في حقبة التمييز العنصري وفي روديسيا التي كان لها نفس النظام السياسي. في تلك الحالتين فقط نجحت العقوبات في تغيير النظام السياسي. أما سياسة العقوبات المفروضة من طرف واحد كالولايات المتحدة أو حتى من مجموعة دول كدول الاتحاد الأوربي فلم تنجح حتى الآن، ولن تنجح. فالدول المستهدفة من تلك المجموعة بقيادة الولايات المتحدة تجاه كل من روسيا، والصين، والجمهورية الإسلامية في إيران، وكوبا، والجمهورية البوليفارية في فنزويلا، وسورية ما زالت رافضة للخضوع للإملاءات الأميركية والأوروبية بل أكثر من ذلك استطاعت تجاوزها رغم الألم التي سببتها تلك العقوبات على مدى السنين وفي حال كوبا وإيران وسورية على مدى عقود من الزمن.

الملاحظة الثالثة هي أن قانون قيصر ومعه سائر سلّة العقوبات السابقة واللاحقة هي عدوان موصوف على الشعوب وبالتالي تشكّل جرائم حرب موصوفة. فقانون قيصر هدفه خنق الاقتصاد السوري، أي خنق الشعب السوري عبر حرمانه من التعاون مع أي بلد، وأي شركة، وذلك لتجويعه وصولا إلى قتله عبر منع المساعدات الطبّية ووصول الدواء بشكل طبيعي ومنتظم. فرفض ذلك القانون هو أولا واجب أخلاقي، وثانيا واجب وطني، وثالثا واجب قومي في آن واحد.

لكن إذا وضعنا جانبا هذه الملاحظات نعتقد أن آفاق نجاح تلك العقوبات محدودة للغاية وذلك لعدّة أسباب. السبب الأول هو ان موازين القوّة التي رافقت صوغ ذلك القانون تغيّرت بشكل واضح لمصلحة القوى المناهضة للهيمنة الأميركية من جهة والمقاومة للعدو الصهيوني من جهة أخرى، وذلك على الصعيد الميداني والسياسي. فقوانين الاشتباك لم تعد تحدّدها الولايات المتحدة بعد الرد الإيراني على قاعدة الأسد في العراق وبعد اختراق الحصار على فنزويلا للناقلات النفط الإيرانية ومشتقاته دون أي رد عملي يذكر. كما أن العدو الصهيوني يطبّق قوانين الاشتباك التي فرضتها   المقاومة وليس العكس وذلك على لسان القيادات العسكرية الصهيونية. ومن ضمن التغيير في موازين القوى جائحة الكورونا وفشل الإدارة الأميركية في مواجهتها وإيقاف العجلة الاقتصادية في الولايات المتحدة والبطالة التي قد تصل إلى 40 مليون عامل. أضف إلى كل ذلك الاضطرابات والاحتجاجات على العنصرية البنيوية في الولايات المتحدة التي أطلقت شرارتها مقتل مواطن أميركي من أصول إفريقية على يد أحد افراد الشركة في مدينة مينيابوليس، فكانت الشعرة التي قصمت ظهر البعير. والكلام اليوم الدائر في الأروقة السلطة في الولايات المتحدة هو حول إدخال المؤسسة العسكرية على الساحة الداخلية وما يرافقها من أزمات حادة دستورية وسياسية. كما أن موجة التنديد بالرئيس الأميركي على خطابه العنصري (وإن لم يكن جديدا) إلاّ أن على ما يبدو طفح الكيل. وبالتالي دخلت الولايات المتحدة في مرحلة اللاتوازن وربما في المجهول.

السبب الثاني هو ناتج عما سبق وهو إمكانية مواجهة العقوبات بشكل فعّال. فالعقوبات وإن كانت موجّهة نظريا ضد سورية فإنها تستهدف العالم أجمع إذ دولة تزعم أنها تستطيع فرض قوانينها الداخلية على العالم وأن ليس هناك من قانون دولي بل فقط القانون الأميركي. وكما أشرنا أعلاه فإن القرارات الأحادية التي لا تحظى بإجماع تفشك حتما فما بال قرار يستهدف العالم كله؟  من المؤشرات التي تدلّ على أن العالم لن يتجاوب مع قرار الإدارة الأميركية رفض عدد من دول المجموعة 7 بعقد لقاء وإن كان افتراضيا وذلك بناء على طلب الرئيس الأميركي.

هنا يمكن التوقف عند تجارب حديثة تضاف إلى التجربة الكوبية في مواجهة العقوبات الأميركية. التجربة الأولى هي التجربة الإيرانية والثانية التجربة الفنزويلية والثالثة الروسية والرابعة الصينية. فهذه التجارب إن دلّت على شيء فهو فشل المحاولة الأميركية لتغيير النظام في الحد الأقصى والسلوك في الحد الأدنى كما تزعم بالنسبة لسورية. كل تجربة على حد تستحق بحثا منفصلا ولكن يمكن القول إن الدول التي تنتج غذائها هي التي تستطيع أن تصمد. فالدولة التي تزرع لا تجوع وبالتالي يصعب إخضاعها وترويضها. فما بال إذا كانت تلك الدولة متحالفة في مواجهة الاستكبار الأميركي. فهذه الدول تشكّل ثلثي العالم من الناحية السكّان وأكثر من نصف الاقتصاد العالمي. تتوهّم الولايات المتحدة أن تحكّمها وسيطرتها على شرايين المال يعطيها القدرة على فرض الاملاءات. فما شهدناه في السنوات الأخيرة محدودية تلك السيطرة حيث بدائل لنظام المدفوعات الدولية بدأت تظهر.

السبب الثالث هو انه بإمكان الدول والشركات والأشخاص المستهدفة أن تطالب الولايات المتحدة بالتعويض عن الضرر التي سيصيبها فيما لو التزمت بالقرار. فلبنان على سبيل المثال يتحمّل ما يوازي 10 مليارات سنويا من جرّاء تواجد النازحين من سورية. فإذا قانون العقوبات يمنع التنسيق مع الدولة السورية لعودة النازحين فعلى الولايات المتحدة التعويض بذلك. هذا نموذج مما يمكن أن تطلبه الحكومة اللبنانية. وكذلك الأمر بالنسبة للتجارة عبر سورية للوصول إلى العراق والأردن ودول الخليج.  فالعراق أبدى استعدادا لشراء كافة المنتوج الزراعي اللبناني وهذا لن يحصل إن استمرّت المقاطعة مع الدولة السورية.  لذلك نعتقد أنه لبنان يمتلك أوراقا ليست ببسيطة كما يعتقد البعض أو كما يروّج البعض الآخر أن لا حول ولا قوّة إلاّ بالانصياع للمشيئة الأميركية. كما يمكن للحكومة اللبنانية مطالبة الولايات المتحدة بالتعويض عن الخسائر التي ستنتج عن قطع الامدادات الكهربائية من سورية. فعلى الحكومة اللبنانية مطالبة التعويض وذلك عبر استعمال المحاكم الدولية وحتى المحاكم الأميركية لأن القانون الأحادي يشكّل عدوانا صريحا ليس فقط على سورية بل على لبنان والعالم اجمع. فالدستور الأميركي لا يحمي القوانين التي تعتدي على الدول الأخرى. على كل حال يمكن للخبراء القانونيين درس إمكانية مطالبة المحاكم الأميركية أسقاط ذلك القانون وكذلك الأمر بالنسبة للمحاكم الدولية.

السبب الخامس هو ان نظام العقوبات دفع بشكل ملحوظ إلى إقامة نظام مدفوعات دولي خارج إطار الدولار. فسلّة التبادل السلع واستعمال العملات الوطنية والذهب إضافة إلى التحوّل إلى اعتماد عملات أخرى غير الدولار كاليووان الصيني على سبيل المثال سيخفّف من وطأة العقوبات.

السبب السادس هو أن العالم الذي سيتأثر بتلك العقوبات المخالفة للقانون الدولي وقرارات مجلس الأمن وميثاق الأمم المتحدة لن يسكت عن الخسارات التي ستقع غليه. فسورية مقبلة على ورشة إعمار كبيرة قد تستمر عدّة سنوات تستطيع الشركات العالمية المساهمة فيها. وبما أن جائحة الكورونا ضربت الاقتصاد الأميركي وخاصة قاعدته الإنتاجية حيث تبيّن أنها منكشفة تجاه الصين فإن منع الصين من المساهمة في إعادة إعمار سورية يصبح صعبا أو مستحيلا. فالولايات المتحدة أصبحت بحاجة إلى الصين أكثر من حاجة الصين إلى الولايات المتحدة. أما دول الاتحاد الأوروبي فستقدم على مراجعة الاتكال على الاقتصاد الأميركي لحماية مصالحها الاقتصادية.

أما فيما يتعلّق بلبنان فحجم الخسارة المرتقبة من تحدّي العقوبات أقل بكثير مما يعتقد البعض. فحجم المبادلات مع الولايات المتحدة لا يأتي إلاّ في المرتبة الخامسة أو السادسة بعد الصين ودول الاتحاد الأوروبي. أما العقوبات على بعض الشخصيات اللبنانية يصبح السؤال هل مصلحة الأشخاص أهم من المصلحة الوطنية؟ الحسابات الضيّقة لبعض القيادات قد تساهم في إضعاف مقاومة العقوبات لكن في آخر المطاف تلك المصالح لن تصمد أمام حجم المصلحة الوطنية بالانفتاح على سورية. لكن أهم ما يمكن أن نقوله هو أن مواجهة العقوبات ستكون مواجهة عالمية. فلا يمكن لأي دولة المواجهة منفردة بل بشكل جماعي وهذا هو التوجّه المطلوب والممكن كي لا نقول الحتمي. فمحور المقاومة للعدو الصهيوني سيكون جزءا من جبهة المواجهة العالمية خاصة أنها متحالفة مع الكتلة الاوراسية. فالإنجازات التي حققتها كل من الصين وروسيا في غرب آسيا لن تذهب هدرا عبر الرضوخ لتلك العقوبات وبالتالي الخيار المتاح للحكومة اللبنانية أصبح واضحا. الصعوبة ليست في المواجهة بل في اتخاذ القرار.

* كاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي