الرئيسية / أخر المستجدات / نهاية سردية أوسلو ونهاية التطبيع
كمال عبد اللطيف

نهاية سردية أوسلو ونهاية التطبيع

كمال عبد اللطيف/

تستمرّ حرب إبادة الفلسطينيين بجنون، مصحوبة بمواقف وصور مرعبة أمام أنظار العالم أجمع. ومقابل ذلك، تتسع رقعة الشعوب التي تتظاهر في المدن الكبرى في العالم، مُعلنة تضامنها مع الشعب الفلسطيني ومقاومته الصهيونية وأطماعها. ولم يتردّد الغرب الداعم للحرب المشتعلة في استخدام كل ما يُسعفه بوقف المقاومة الفلسطينية، موظّفاً في ذلك مختلف التقنيات التي تتيحها اليوم وسائل وأدوات الفضاءات الافتراضية، إضافة إلى حروب الأسماء والصور، وتوظيف أبشع الخطابات في الحديث عن الفلسطيني العربي، رغم معرفته أن المقاومة الفلسطينية تحمل اليوم راية النضال من أجل وقف المشروع الصهيوني، مشروع الشرق الأوسط الجديد، وقد اعتقد أصحابه نهاية القرن الماضي أنه قادم.

ستُحسب لمعركة طوفان الأقصى، المنجزة يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مختلف الآثار والنتائج، التي تتواصل اليوم في قلب فلسطين المحتلة وفي قلب غزّة بالذات.. كما سيُحسب لها، حتى عندما لا يشاء الصهاينة ومن يقف معهم ووراءهم، أنها أسّست وتؤسّس لمسار جديد في سجلِّ المقاومة الفلسطينية الباسلة، رغم كل التسميات التي تربطها بفصيل من قِوى التحرير الفلسطيني. إنها تُعَدّ اليوم عنواناً للمقاومة الفلسطينية الجديدة، المستوعبة تاريخ الحروب والانتفاضات التي مرّت قبلها طوال عقود القرن العشرين.. تاريخ النكبة والهزيمة، وتاريخ المواجهات المتواصلة مع الصهيونية وحلفائها، تاريخ المخيمات والانتفاضات المتجدِّدة، تاريخ القتل والتشريد والعدوان الصهيوني المتواصل، إضافة إلى ما تخلّل ذلك كله من أحاديث عن مشروع السلام، واتفاقات التطبيع المرتبطة بحروبٍ معيّنة، أو المرهونة بسياقات وخيارات تروم إطفاء جذوة المقاومة، إطفاء جذوة المشروع الوطني التحرّري الفلسطيني.. نحن اليوم مع الحدث المذكور أمام علامة كبرى في مشروع التحرير القادم.

أعجب لكل الذين يشخصون الفعل المقاوم، فعل طوفان الأقصى الذي يقف وراء الحرب العدوانية الدائرة في فلسطين، وما ترتب ويترتب عنه من آثار في العالم أجمع، ومن دون إغفال دروس المواجهات، التي بنتها أجيال من الفلسطينيين، مع مختلف أشكال سياسات الاستعمار الاستيطاني في فلسطين والمشرق العربي.. أعجب لكونهم يشخصونه ببساطة في تسميات غريبة، من دون أن يفكّروا في أن فعل الطوفان باعتباره طفرة في المقاومة، طفرة نوعية أصابت الكيان الصهيوني من حيث لا ينتظر، وألحقت بجبروته وطغيانه وجبروت من صنعه ويواصل ترتيب عمليات استيطانه بِرجَّةٍ مُخَلخلة، رَجَّةٍ نتصوّر أنه ستكون لها نتائج في حاضر ومستقبل الصراع الإسرائيلي العربي في المشرق العربي.

الروح التي حملها شباب الفعل المقاوم الجديد، تتّجه إلى استعادة روح المشروع الوطني الفلسطيني، مشروع التحرير

ساهم الفعل المقاوم الجديد، في كشف أوهام كثيرة عملت على تحويل الكيان الصهيوني إلى قوة قادرة على بناء توازنات في المشرق العربي، رغم أنها مجرّد أداة يعمل الغرب الاستعماري على توظيفها، لمزيد من ترتيب جوانب من استراتيجياته في العالم وفي المشرق العربي بالذات، أداة تواصل رعاية مصالحه انطلاقاً من كونه قوة عظمى، في عالمٍ لم يعد كما كان منذ نهاية القرن الماضي، عالم ساهمت التحوّلات التي يعرفها منذ عقود، في وضعه أمام مجموعة من المتغيّرات التي سيكون لها دور كبير في بناء ما يمهد لميلاد عالم جديد.. كما كشف أوهام المطبّعين من العرب، القدامى منهم ومطبّعي السنوات الأخيرة، وقد انخرطوا في نوع من نفض اليد من القضية الفلسطينية، وسلّموا بأهمية الكيان الاستعماري الصهيوني في حماية أنظمتهم.. نتبيّن ملامح ذلك، في بيانات مؤتمرات القمّة العربية الإسلامية أخيرا، وقد اكتفى محرّروها ببلاغة قمم القرن الماضي، ولم يكلفوا أنفسهم عناء النظر في مواثيق التطبيع وبنودها المُعْلَنة والمسكوت عنها، وأصبح بإمكان الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي أن يتغنّى بتصالحه مع أنظمة عربية كثيرة، وأن يمارس، في الآن نفسه، مزيداً من بناء المستوطنات ومزيداً من قهر الفلسطينيين، في قلب مدنهم وقراهم أمام العالم أجمع.

ترتّبت عن “طوفان الأقصى” زعزعة فعلية لمصير الكيان الصهيوني وأوهامه، وقد أصيب الصهاينة برجّة عنيفة سمحت لهم بإعلان مبدأ إبادة غزة، تهديمها وترحيل أهلها… وما يعاينه العالم أجمع في الحرب المتواصلة فوق أرض فلسطين يُعَدّ أكبر دليل على قوة الطوفان الذي فجره فعل 7 أكتوبر.. أما الحرب المجنونة التي تهدم المستشفيات والبيوت والمدارس بحثاً عن الأسلحة والأنفاق والجيوش فتُعَدّ إحدى نتائج الرّجّة الكبرى المخلخلة لخطط الكيان الصهيوني وسياساته.. تدرك إسرائيل أن حربها، المتواصلة منذ ما يقرب من شهرين، لن تسعفها باستعادة التوازن المفقود.. إنها تقوم بأفعال انتقامية عمياء. أما الروح التي حملها شباب الفعل المقاوم الجديد، فإنها تتّجه إلى استعادة روح المشروع الوطني الفلسطيني، مشروع التحرير، وهو يستوعب تجارب ومكاسب معارك ومقاومات أجيال من الفلسطينيين.

ما يحصل اليوم في كامل التراب الفلسطيني المحتل يفتح أفق المقاومة أمام عملية تحرّر يتم فيها كسر قيود السلام وأغلاله، كما رسمتها بنود اتفاق المبادئ في أوسلو

أشعر بغضب كثير، وأنا أتابع الخطابات الصهيونية المنادية بمحو غزّة وإبادة أهلها، رغم إدراكي أن مفرداتها تعكس جوانب من صور الوعي الصهيوني بنهاية أحلامه التوسّعية وأحلامه المرتبطة بدعم نظام دولي في طوْر التحول والتغيّر.. وإذا كنتُ أغضب من جرائم القتل والحرائق والدمار الذي تمارسه إسرائيل، فإنني أمتلئ غيظاً من الأنظمة العربية التي عجزت عن حمل قليل من الحليب والدم والدواء إلى غزّة، وقد امتلأت رمالها وسماؤها بالخراب والتراب وروائح الموت وزغاريد طريق التحرير.

تُبرز روح المقاومة الفلسطينية المتواصلة اليوم زمن الحرب والهدنة وتبادل الأسرى أنه لا يمكن إبادة الفلسطينيين ولا يمكن تهجيرهم لا من ديارهم ولا من أرضهم، فهم في فلسطين باقون.. وأساطير الصهاينة المرتبة من القوى الغربية في سياق حساباتٍ دولية، ذات صلة بأزمنةٍ خلت لم تعد مجدية. المقاومة الجديدة أفق سياسي جديد تؤطّره اليوم تحوّلات كبرى يجري تأسيسها في عالم جديد، ومخطئ من يعتقد أن تدمير غزّة وقتل أطفالها وكل جرائم الحرب التي تمارسها إسرائيل، ومن معها بعتاده وحاملات عتاده الحربي، سيطفئ جذوة شرارات التاريخ الجديد الذي صنعه “طوفان الأقصى”.

نتصوّر أن ما يحصل اليوم في كامل التراب الفلسطيني المحتل يفتح أفق المقاومة أمام عملية تحرّر يتم فيها كسر قيود السلام وأغلاله، كما رسمتها بنود اتفاق المبادئ في أوسلو، كما تتم فيها عملية محاصرة مسلسل انخراط أنظمة عربية عديدة، في تطبيع علاقاتها مع الكيان الصهيوني.