الرئيسية / أخر المستجدات / اللغة العربية كنز يملكه العرب لبناء مجموعة لها وزن في عالم اليوم

اللغة العربية كنز يملكه العرب لبناء مجموعة لها وزن في عالم اليوم

د خديجة الصبار/

اللغة مسكن الوجود “هيدجر”، فيها يقيم الإنسان، وأهم ما يميز الأقوام وعنصر رئيس للهوية الوطنية والتقدم. وتقسيم الشعوب يستند إلى أسس لغوية وحضارية أكثر مما يستند إلى أسس بيولوجية. واللغة ليست لغة فقط بل ثقافة ووسيلة كل عمل اجتماعي أو علمي أو ثقافي، وعامل قوي يربط بين الشعوب التي تتكلم نفس اللغة. وبها يعبر عن الوجدان والهموم والتطلعات. فالإبداع الثقافي والمعتقدات والعادات والأساطير والشعر والعهود والمواثيق تدين بوجودها إلى اللغة ولا وجود لها خارجها.

واللغة العربية خزان الثقافة القومية وأكبر كنز يملكه العرب ليكونوا مجموعة لها وزن في عالم اليوم، وكسب موقع مناسب من أجل المساهمة الفعلية في حياة الأمم، تملك خصائص تمس الأصوات والنحو والصرف والخط، ناتجة عن بنيتها وعن تطورها داخل المجتمع وكذلك عن موقعها في عالم اليوم. اللغة ليست بريئة ولا محايدة ” دريدا” بل هي سلطة. دليلنا التاريخي على ذلك أن أوربا البشرية حينما خرجت من أوربا الجغرافية بدأت بفرض سلاحها وإلهها وقانونها وتجارتها ولغتها على غيرها؛ فأول ما يقوم به الاستعمار- بما هو محو للآخر ذاتا ومكانا- حين يحتل بلدا ما، فإنه يلغي لغته الأصلية ويبخسها، ويفرض تعلم لغته هو (لغة المستعمِر) لتوطيد سلطته. ويعلمها للنخبة المرتبطة به والتي سوف تخدمه بتوظيفها لتسيير إدارات البلد المحتَل. وهي نخبة منفصلة عن الشعب الذي يهدف الاستعمار إلى هدم ثقافته وإلغائها وصولا إلى إلغاء كيانه وهويته.

وخصوصية الثقافة العربية أنها تكونت في جو غلب عليه دائما منطق المواجهة مع الآخر: الأولى الإسلام ضد

المسيحية ثم العرب ضد الاستعمار الغربي، ثم العرب ضد القوة الصهيو- أمريكية. وتبخيس اللغة يؤدي إلى تبخيس الكيان ذاته، وإلى بروز حالة من الغربة عن الذات وخصوصية اللسان في محيطه الجغرافي. وليس غريبا أن يكون تمسك الشعب المحتل بلغته إحدى وسائل المقاومة، يقول “جاك بيرك” (Jacques Berque)” إن أقوى القوى التي قاومت الاستعمار الفرنسي في المغرب هي اللغة العربية بل العربية الفصحى بالذات. قاومته وحالت دون ذوبان الثقافة العربية في لغة المستعمر الدخيل.” وإحدى مهام التحرير الأولى هي استعادة اللغة الوطنية بما هي التعبير الأصيل عن الهوية ولأن التحرير النفسي والثقافي يمر من خلالها. ألم تتحول اللغة الإنجليزية بامتلاكها ناصية عوالم العلم والتجارة والتكنولوجيا إلى نوع من الإمبريالية التي تمنح بطاقات دخول سوق العمل الدولي لمن يبرع في إتقانها وعلومها، والهيمنة الأمريكية تفرض لغتها كمرجعية للفكر والممارسة. ومن لا يملك ناصيتهما يحرم من خيرات العولمة المالية والتقنية.

اللغة العربية قوام الثقافة المشتركة التي تصل أنحاء العالم العربي، وتربط شعوبه على اختلاف نزعاتها وملابساتها، منذ أن حمل العرب راية الإسلام إلى العالم بلسان عربي. ولسان القوم ليس مجرد رموز لغوية، فهو خزان ثقافتهم، بما فيها من عادات وتقاليد وتطلعات. في جدل القرآن مع قريش يركز على سمو مصدره وعروبة لسانه:” إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون.”[1] ونزوله بلسان عربي يعني أن إرساله إلى العرب يقتضي أن يخاطبهم بلغتهم كي يفهموا عنه. ” ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي !”[2] فرض الإسلام توحيد اللغة العربية التي قامت على أنقاض اللهجات القبلية العربية المتعددة إلى أن أصبح الارتباط بينه والعروبة ارتباطاً قويا:” ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين.”[3] القرآن كنص لغوي نزل بلغة قريش وبحسب ما ألفته وإلا لما فهمته، بمعنى أن العربية مكون من مكونات ماهيته، فهو عربي اللسان طبقا لقوله تعالى:” وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم،”[4] “لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين.”[5] وكان لها تاريخ شمولي في القرون الهجرية الأولى بحيث ألفت بها مختلف الأمم والأعراق بخلفيتها التاريخية والثقافية والحضارية التي وجدت قبله بقرون عديدة لانفتاحها وكانت همزة وصل بين السريانية واليونانية وحافظت على شطر مهم من التراث اليوناني أس التراث الأوربي. وكان لمدينة الحيرة الأثر الأول في نقل تراث الفكر اليوناني إلى العرب وفي ترويض اللغة العربية وجعلها أداة ممتازة للتعبير عن الفلسفة والعلوم.[6] والمعرفة حصيلة جدل اللغة والتاريخ. والتصور البنيوي للعالم مرتبط بالإدراك المرتبط باللغة التي يكتب بها التاريخ. فهي واسطة عبور المؤرخ. ومن الصعب استيعاب الإنسان عالما مفرغا من لغته، لذا تم تعريب العالم من خلال التاريخ العربي لما قبل الإسلام، لتصبح أسماء الأماكن والأعلام عند المؤرخ ، الراوي العربي قابلة للتعريب ويعيد صياغة وتشكيل وعينا بالعالم من خلال نموذجه الإدراكي المرتبط باللغة العربية.

الإمساك بزمام المصير يبدأ باللغة

تتعرض اللغة العربية الفصحى التي نسعى إلى تعلمها في المدارس و الإعداديات، والجامعات، والتي قدّمت للعلم خدمات جليلة، لانتقادات من طرف بعض النخب بتعلة أنها لغة نخبوية تقتصر على الخاصة. يسميها الأجانب العربية الكلاسيكية أو المقعدة. ونسميها نحن الفصحى أو المعربة أو لغة العلماء أو اللغة الأدبية، أحيانا لغة الخاصة أو لغة القرآن. هناك من يرى أن العالم العربي يكاد يكون من الحالات القليلة التي لم تبن فيه بعد نهضة علمية وفكرية وتقنية باللغة الأم، على عكس معظم شعوب العالم النامية والمتقدمة، ولم يؤسس عربيا بعد علوما وتقنيات بلغتها ولم ينتج إنجازا في هذا المجال. والتحرير النفسي والثقافي الفعلي يمر من خلال استرداد الشعب لهذه اللغة حسب الفيلسوف اللغوي وأحد كبار مرجعيات التحليل النفسي “مصطفى صفوان”. في السياق نفسه نادت بعض النخب في المغرب بالتدريس بالدارجة أي العامية المغربية أو اللغة المحكية التي يتعلمها المرء على ثدي أمه، ويعبر بواسطتها عن وجدانه وهمومه وتطلعاته، وأدخلتها في المناهج الدراسية باعتبار أن اللغة الفصحى وراء أزماتنا وتخلفنا، لتتوقف هذه المسرحية بتدخل المؤرخ عبد الله العروي موضحا عبر برنامج تلفزيوني أن الإمساك بزمام المصير يبدأ باللغة واعتماد:” الفصحى فيما هو فكري، فحصي، تأملي، رمزي، أكان أدبا أو فلسفة أو علما أو تقنية ضروري.” فلا وجود في الواقع العملي للعلاقة بين العنصرين. والأم هي” المربية الوحيدة والدائمة، لا ينتهي تأثيرها إلا بالموت أو القطيعة، إنها حلقة وصل بين الطبيعة والمجتمع بقدر ما هي قريبة من الطبيعة بقدر ما ترسخ في ولدها النوازع الطبيعية.” لغة الأم هي تربية النوازع وتنميتها.

كل ذي معرفة وثقافة عميقة يدرك ثراء اللغة العربية. فهل يمر التقدم بإحلال العامية مكان الفصحى؟ أبدا المشكلة في مكان آخر، في بناء مجتمع المعرفة في المنطقة العربية، في نسبة الأمية العالية الانتشار بين جماهير شعوبها ما لم يعد مقبولا في عالم اليوم، بالأخص أمية تكنولوجيا المعلومات والاتصال التي لا مجال لشراكة عالمية من دون التمكن منها وصولا إلى جعلها لغة معرفة، فتحميل اللغة بالمعرفة أساس بناء المجتمعات. ويتوجب علينا اليوم الحفاظ على استقلالية لغتنا بتعبيراتها الفنية والعلمية والأدبية لتؤدي أغراض العلم والمعرفة من هنا ضرورة:

تطوير اللغة العربية لا النيل من مركزيتها

يضع عبد الله العروي الثورة اللغوية ضمن الثورة الثقافية باعتبار قضية اللسان انعكاس لمشكلة الوجود العربي. ولا يمكن أن تحل القضية إلا في نطاق وحدوي. ومن الصعب تصور مثقف عربي مرتبط بمجتمعه واع بقوميته يتطلع إلى المستوى العالمي دون تملكه وسيلة تعبير عصرية طيعة. ف اللغة صانعة الرؤية وعادة ما تكون الرؤية والتصور الذي يحدث للإنسان حول موضوع ما وليدة اللغة التي بها يقرأ ويكتب، هذا ما أقرته فلسفة اللغة في إطار جدلية اللغة والفكر، وانتهت إلى أنهما وجهان لعملة واحدة لا يمكن الفصل بينهما، على أساس أننا حينما نفكر باللغة وحينما نتكلم ونوظف اللغة فإننا نمارس الفكر. إذا كان الفكر بما هو تصور يعبر عنه بصياغة لغوية معينة فإن اللغة التي يستعملها الإنسان تدخل في صياغة رؤيته للأمور.

والإبداع هو القيمة الأساس لنظامنا الفكري في إطار الاستقلال الثقافي، مع الانفتاح على ” اللغة الأجنبية التي ليست لغة انفتاح وحسب، بل هي أيضا، وربما قبل كل شيء، لغة تقارب وانسجام”. وإذا حافظنا على اللغة كما كانت في العصور الزاهرة فإننا نحافظ على الثقافة التي كانت مادتها ومضمونها، فنواجه الاختيار الصعب؛ إما أن تنفتح اللغة على مفاهيم وأفكار جديدة، فتكون مرنة في سيرها مع عجلة الزمان التي لا تتوقف عن الجريان، أو تتحجر لتبقى وفية لتراكيب الماضي فتعجز عن استيعاب مبتكرات الحاضر بما يلزم من دقة ووضوح. وبما أن لها كل خصائص الأحياء، فإن عدمت القدرة على التغذي بعناصر جديدة تتجمد وتتكلس، مما يستوجب تطويرها وتجديدها وتبسيط صيغتها النحوية واللغوية وتطويرها لتتلاءم وروح العصر. الحرف واللغة والثقافة كل منسجم وظيفته التواصل والاستمرار؛ الحرف يخدم اللغة واللغة تخدم الثقافة والثقافة تخدم المجتمع. واللغة مرآة الفكر والثقافة بوجهيها: المادي (مأكل، ملبس، مسكن) الأدبي (أخلاق، سلوك، معاملة الغير)، تنعكس فيها أحوال الثقافة والحضارة. وهدف كل ثقافة، في آخر المطاف، هو الإسهام في رفع مستوى الإنسان. ولأن اللغة مكون ثقافي فيجب الابتعاد عن تسييسها، باعتبار مسألة الهوية لا تكون موضوع منازعات سياسية.

وراهن اللغة العربية التي اعتبر “جاك بيرك” معجمها اللغوي لا يضاهى. وأنها ليست أبجدية جاهزة بل عقل وخيال وتاريخ، تتطلب الغوص في أعمقها وتذوق مفاصلها حتى يسيطر على أكبر قدر من إرادة هذه اللغة الضخمة الفخمة، أبهره لسان العرب ببحر معانيه وألفاظه التي كان يجهلها من قبل”، مأزوم لأسباب سياسية واجتماعية ومشكلها هو مشكل التخلف، ولا يتصور تقدم حضاري يبقى معه المشكل اللغوي قائما على الحالة التي نحياها:”هناك علاقة سببية، بين إصلاح الحرف وانخفاض معدل الأمية، المقارنة بين تركيا ومصر، ماليزيا وباكستان لا يدع مجالا للشك.”

ومسألة الانبعاث الثقافي مفروضة على العرب بسبب تاريخهم. وهذا يتطلب تجديد اللغة، وتطويرها وإخراجها من الجمود وتحويلها إلى لغة وظيفية للكلام والكتابة من خلال تبسيطها وتسخير الإمكانات المادية والمعنوية لاستيعاب المستجدات العلمية والتقنية، ولتملك وإنتاج تكنولوجيا المعلومات والاتصال عوض الاعتماد على ما يصنعه الغير، وتمكين الذهنية العمومية من حسن استعمالها لكي لا تبقى استهلاكية خرافية، وتشجيع المبادرات الثقافية ونشر المعرفة العلمية الإنتاجية لا مجرد استخدام تلك الآلات أساسا للترفيه وقتل الوقت، ومن الوهم الظن أن ثورة سياسية أو اجتماعية ستلغي المشكل. النبوغ والتفوق والابتكار يجب أن يكون باللغة القومية. وكل محاولة للنيل من مركزيتها مفاده الاستمرار في التبعية وعدم التحكم في المصير. الحضارة المهيمنة حاليا غربية المنشأ، وتقليد إنتاجها لا يعد مشاركة في إثرائها، ذلك أن استيعاب منطق الحضارة المهيمنة العضوي لا يضمن حسن الإفادة منها، وبالتالي لا يضمن الإبداع في نطاق معطياتها. هذه ملاحظة تصدق على الجماعة لا الأفراد، النبوغ المقصود هو النبوغ الجماعي، نبوغ الأفراد الذين لا يتنكرون لمحيطهم الجغرافي والاجتماعي والتاريخي. النبوغ الفردي لا يهم لأن الفرد يستطيع أن ينبغ في سياق الواقع الموضوعي المنتج للعوامل المكونة لشكل المعرفة، والمتحكم في إنتاج المعارف وابتكار الأفكار في نطاق متطلبات الحضارة الغربية ومحيطها الثقافي، وبلغة غير لغته، هذا هو أصل هجرة الأدمغة. الثقافة الغربية في غير حاجة لهؤلاء هم( نوابغ خرس بتعبير العروي)؛ ماذا ينقص الأدب الفرنسي لو ضاعت الكتب التي ألفها بالفرنسية كل العرب وكل المسلمين ! قطعا لا شيء.

وتوفر فرص النبوغ الجماعي في شتى المجالات يتطلب ثورة تربوية كشرط رئيس لتهيئ الجو للإبداع الفكري وتطوير منهجية تعليم اللغة، للخروج من الوضع الحالي إلى وضع آخر يسمح بالمساهمة في إبداع الحضارة، بمعنى أن يكون لنا دور في مصيرها ومصير الإنسانية، بالمساهمة في الإبداع الفكري والعلمي والثقافي والعسكري والاقتصادي. ف للثقافة مفهوم هو تعميق قدرات الإنسان وعدم القناعة بالثقافة الغربية المتغلبة اليوم، ليس من قبيل الحقد والاعتزاز، وإنما هو ضرورة إنسانية تهيؤنا لخلق ثقافة جديرة بنا وبماضينا، ويكون هذا الوفاء بلورة لقوميتنا:” الانبعاث العربي هو مشروع العرب جميعا،”ولا حضارة عربية بدون محيط ثقافي عربي

[1] – سورة يوسف،  الآية 2.

[2] – سورة فصلت،  الآية 43.

[3] – سورة الشعراء، الآية 198-199.

[4] – سورة إبراهيم، الآية 4.

[5] – سورة الشعراء، الآية 190.

[6] – د. صالح أحمد العلي، تاريخ العرب القديم والبعثة النبوية ( بيروت، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ، الطبعة الثانية 2003) ص 126، و أحمد أمين، ضحى الإسلام الجزء الأول.