الرئيسية / أخر المستجدات / التحوّلات الدولية وانعكاسها على المشهد العربي، تقدير موقف
زياد حافظ

التحوّلات الدولية وانعكاسها على المشهد العربي، تقدير موقف

د زياد حافظ/

انتقل العالم من القطبية الأحادية التي ظهرت بعد تفكّك الاتحاد السوفيتي والتي حكمت العلاقات الدولية بشكل عام والسياسات الخارجية العربية بشكل خاص منذ رحيل القائد الخالد الذكر جمال عبد الناصر إلى عالم متعدد المحاور والقطبية وذلك بعد سلسلة من التطوّرات الدولية والإقليمية والعربية غيّرت معادلات كثيرة وموازين القوّة.  وقراءة المشهد الدولي من قبل النخب الحاكمة طيلة حقبة الأحادية القطبية حدّدت اتجاهات السياسات الخارجية العربية بما فيها العربية تجاه القضية الفلسطينية وتجاه العلاقات العربية العربية والعلاقات العربية مع دول الجوار بشكل عام وخاصة مع الجمهورية الإسلامية في إيران.  فهذه السياسات بنيت على قاعدة أن الولايات المتحدة الأميركية تمتلك 99 بالمائة من أوراق اللعبة.  وهذه القاعدة لم تكن صحيحة كما اعتقدت آنذاك النخب الحاكمة العربية وربما حتى ماض قريب جدا إلاّ أنها تحطّمت أمام التحوّلات السياسية والاقتصادية في دول الغرب والولايات المتحدة وخاصة مع تراجع الجهوزية العسكرية الأميركية لخوض أي معركة جدّية مع خصم جدّي يستطيع ويريد التصدّي للتدخّلات الأميركية في المنطقة.

المهم هنا هو أن التحوّلات كشفت العورات العسكرية الأميركية وخاصة في عدم الجهوزية العسكرية التي تعود إلى تحوّلات داخلية في الولايات المتحدة على الصعيد السياسي والاقتصادي والثقافي المجتمعي.  كما يجب تسجيل دور الضربات التي وجّهها محور المقاومة من بعد تحرير لبنان سنة 2000 وخاصة ضربات المقاومة في العراق بعد الاحتلال الأميركي وتعثّر مشروعه في المنطقة إضافة إلى الإخفاق الذي رافق احتلال أفغانستان منذ 2001 والخروج الذليل منها في آب 2021 بعد 20 سنة من احتلال عقيم.  كما أن ضربات المقاومة في فلسطين وهزيمة الكيان الصهيوني في لبنان في 2006 وصمود سورية الأسطوري لأكثر من عشر سنوات في مواجهة العدوان الكوني عليها وصمود شعب اليمن أمام العدوان الأميركي بأدوات عربية وما رافق ذلك من إخفاق في حماية المنشآت النفطية في الجزيرة العربية وفي الخليج العربي، فكل ذلك أكّد أن شيئا ما قد حصل في الجهوزية الأميركية على الصعيد العسكري.  فالولايات المتحدة ما زالت تعيش على وهم قدرات عسكرية لم تعد موجودة كما كانت تتوهّم أو كما اعتقدت اضاليل الأفلام الهوليوودية.   واعتمدت النخب السياسية الحاكمة في الولايات المتحدة معادلة خاطئة أن فائض القوّة النارية التي تملكها الولايات المتحدة يمكنها أن تحوّلها إلى فائض في القوّة السياسية أو حتى العسكرية.  لا نريد الاستفاضة حول الضعف في الجهوزية العسكرية والقدرات القتالية لضيق المجال ولأننا عرضناها في عدة أبحاث يمكن العودة إليها. 

إضافة إلى الضعف العسكري هناك الضعف الاقتصادي.  ومصدر القوّة الاقتصادية الأميركية كان في الإنتاج الصناعي حتى أواخر السبعينات من القرن الماضي.  لكن سياسة إعادة توطين القاعدة الصناعية للولايات المتحدة في دول الجنوب الإجمالي جعلت الولايات المتحدة منكشفة تجاه ذلك العالم حيث أصبحت تستورد أكثر من 50 بالمائة من حاجياتها الصناعية.  اعتبرت، وهنا كان سوء التقدير القاتل، انه بإمكانها التخلّي عن قدراتها الإنتاجية ودخول مرحلة ما بعد التصنيع، طالما امتلكت السيطرة على شرايين المال وعلى هيمنة الدولار.  فالولايات المتحدة ومعها مجموعة الدول السبع كانت تنتج ما يوازي 63 بالمائة من الناتج الداخلي العالمي سنة 1990. أما في سنة 2020 تراجعت حصّة المجموعة إلى أقل من 30 بالمائة والتقديرات لسنة 2023 ستكون أقل من 28 بالمائة.  

والتراجع في الإنتاج تبيّنت تباعته في جائحة الكورونا حيث الانكشاف الغربي بشكل عام والأميركي بشكل خاص للمنتوجات الصناعية الآتية من دول الجنوب الإجمالي وخاصة من الصين كشفت العورة الاستراتيجية للاتكال على ثروة افتراضية مالية.  فالتحوّل في البنية الاقتصادية الأميركية من اقتصاد إنتاجي عيني إلى اقتصاد مالي ريعي افتراضي وضع الولايات في حال ضعف استراتيجي امام الصعود الآسيوي ودول الجنوب الإجمالي التي بادرت إلى إيجاد شبكات مالية غير مرتبطة بالدولار وغير مرتبطة بشرايين المالي الغربية والأميركية.

التراجع على الصعيد السياسي كان أكثر وضوحا في إخفاقات الأطلسي والولايات المتحدة في إجبار العالم إلى الوقوف معه في معاداة روسيا في الازمة الأوكرانية.  فاجتماعات قمة الأطلسي والاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع لم تؤدّ إلى جبهة عالمية لعزل روسيا.  والأداء العسكري الروسي تلازم مع متانة الوضع الاقتصادي الداخلي امام العقوبات التي فرضها الأطلسي والاتحاد الأوروبي فساهم في تعزيز إمكانية التصدّي للإملاءات الغربية التي لم تعد مقبولة.  وحتى على صعيد الدول العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة كان الموقف في أحسن الأحوال على الحياد بالنسبة للولايات المتحدة بينما المطلوب كان الانخراط في مواجهة روسيا وتزويد أوروبا بالغاز والنفط بعد مقاطعة أوروبا للنفط والغاز الروسي.

هذا يعني أن اللحظة التاريخية التي أسقطت نظرية ملكية الولايات المتحدة ل 99 بالمائة من أوراق اللعبة قد حصلت.   الولايات المتحدة بحاجة إلى العرب بينما العرب وخاصة الحلفاء التقليديون لها ليسوا بحاجة إلى الولايات المتحدة.  وهذا ظهر بشكل واضح مع ملابسات التي رافقت زيارة بايدن إلى المنطقة. هذا يعني أن مصلحة الدول العربية لم تعد بحاجة إلى “رضى” الولايات المتحدة والغرب.  فالبدائل الاقتصادية والمالية التي قد تلبّي حاجات الدول العربية موجودة في الكتلة الاوراسية الصاعدة وتشكيلاتها المتعددة من منظمة الامن الجماعي إلى منظمة شنغهاي للتعاون الأمني والاقتصادي إلى الوحدة الاقتصادية الاوراسية إلى مجموعة البريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون والمؤسسات التابعة لهذه التشكيلات.  هذا وقد أبدت دول عربية رغبتها في الانضمام إلى مجموعة البريكس كمصر والجزائر وسورية وبلاد الحرمين.   والدول التي كانت تريد استبدال العداء للجمهورية الإسلامية في إيران بالعداء للعدو الصهيوني قد تراجع سياساتها تجاه إيران كما يظهر في الحوار الناشئ بين بلاد الحرمين والجمهورية الإسلامية.  والأمن الذي تسعى إليه دول المشرق العربي وخاصة في الخليج امن لا يمكن أن يتجزّأ، أي يكون على مصلحة دول الجوار. كما أن امن دول الجوار لا يمكن أن يكون على حساب المصلحة العربية.  لكن الولايات المتحدة تسعى إلى تجزئة الأمن وتوجيهه ضد إيران وليضمّ كيان العدو الصهيوني.  ليس هناك مكان للكيان الصهيوني في هذه المجموعة رغم محاولات التطبيع وما يفرز عنها من اتفاقات امنية وعسكرية.  فالكيان يفتقد إلى أي نوع من البعد الاستراتيجي في المنطقة واتفاقات السلام التي عقدها لم تعطه ذلك البعد.

وهنت تكمن معضلة الكيان الصهيوني.  فهو يوجه مأزقا داخليا لن نقاربه هنا ومأزقا خارجيا.  فعلى الصعيد الخارجي يفقد الكيان الصهيوني الدعم الذي كان يمتلكه في الغرب وخاصة في الولايات المتحدة.  صحيح أن حكومات دول الغرب والإدارة الأميركية ما زالت ملتزمة بأمن الكيان الصهيوني لكن التململ من سلوك حكومات الكيان تجاه الشعب الفلسطيني يتصاعد في هذه الدول.  ويمكن مشاهدة إرهاصات التململ في الولايات المتحدة حيث أصبح انتقاد الكيان شيئا مشروعا حتى في الجالية اليهودية الأميركية وخاصة عند الشباب.  وحملات المقاطعة والتركيز في الاعلام الموازي للإعلام المهيمن الشركاتي على الفظائع التي يرتكبها الكيان ساهمت إلى حد كبير في تعميق الوعي بحقوق الشعب الفلسطيني والظلم الذي يتعرّض له على يد قوّات الاحتلال. فهذه التحوّلات يمكن تفصيلها إلاّ أن ما نريد تأكيده أن نظرة الغرب والولايات المتحدة بشكل خاص للكيان الصهيوني لم تعد كما كانت.  الدعم الرسمي للكيان ما زال قويا بينما الدعم الشعبي له يهتز.

لذلك يمكن الاستفادة من هذه التحوّلات لفرض الإرادة على الكيان وخاصة في قوانين الاشتباك.  ويمكن الإضافة إلى ذلك تهديد منصّات الإنتاج النفطي والغازي في عرض البحر.  فعدم التعرّض للمنصات الغازية يجب أن يقابله فك الحصار على غرّة على سبيل المثال.  وضربات المقاومة يجب أن تستهدف البنى التحتية خاصة تلك التي لها علاقة بالطاقة.