الرئيسية / أخر المستجدات / أحمد جواد.. مشتعلا يموت

أحمد جواد.. مشتعلا يموت

محمد بنيـس/
فنان لم يكن يعشق غير أن يقيم في المسرح، أن يكتب ويقف على الخشبة ليربط الصلة بينه وبين الآخرين. أو يعشق الوقوف لتقديم كاتب، شاعر، فنان، لجمهور الكتَاب الذي يحضر إلى البهو في الطابق الأول من مسرح محمد الخامس، ضمن نشاطه الذي عرفناه به. تلك كانت حياته الثقافية التي شغلته لسنوات. دائم الحضور كان، وفي كل مرة كان يصر على أن يتوالى المشهد في المكان نفسه، مسرح محمد الخامس بالرباط.
هناك تعرفت على أحمد جواد، من خلال دعوتين كريمتين وجههما لي: الأولى، في بداية التسعينيات، دعوة لقاء للحوار مع شاعرين شابين. ثم وجه لي دعوة ثانية سنة 2012، لحفل تقديم ثلاثة من كتبي على إثر صدورها: الحداثة المعطوبة (طبعة ثانية)، مع أصدقاء وديوان سبعة طيور. سنوات تتوالى وهو هناك، في مسرح محمد الخامس، يواصل اللقاءات مع جمهور وفيّ وكتّاب وشعراء وفنانين يحيونه بكلمات الشكر على ما كان يمنحه لهم من فرصة اللقاء والحوار مع جمهوره. فهو كان شديد الاحترام لمن يدعوهم من الفاعلين الثقافيين الذين لهم حضورهم في الحياة الثقافية، خبيراً بتهييء اللقاءات ومتحمساً لدعوة الجمهور.
لسنوات غبنا عن بعضنا البعض، لكني لم أكن أنساه. ثم فوجئت في الأسبوع الماضي بخبر إقدامه في 27 مارس، اليوم العالمي للمسرح، على إشعال النار في جسده أمام مقر وزارة الثقافة. مشهد مأساوي، لا تمثيلية فيه. أحمد جواد، ابن وزارة الثقافة، التي عمل فيها وقدم باسمها أنشطة كانت لها مكانتها، يحرق نفسه احتجاجاً على الوزارة ذاتها. علمت أيضاً أن احتجاجه تكرر على عدم استفادته من الدعم الذي كان يرى أنه يستحقه لإقامة عروض مسرحية عبر المدن المغربية.
نعم، لم يكن أحمد جواد من أعلام المسرح الهاوي أو الاحترافي، ولا أعرف شيئاً عن أعماله المسرحية. يكفيه أنه كان يعشق خشبة المسرح للتواصل مع الآخرين. بل كان مشدوداً إلى الوقوف ومشاهدة شخوصه تتحرك في تفاعل مع الجمهور. باحتجاجه المتكرر كان ينذر بالطريقة الأسوإ لاحتجاج شخص شديد الحساسية بكرامته، فناناً، مواطناً وأحد أفراد وزارة الثقافة، فيما لم يكن أحد يلتفت إليه. هذا ما علمت. ثم جاء اليوم الذي لم يكن الاحتجاج بالألفاظ كافياً ولا برفع لوحة لإعلان مطلبه. بل كان الاحتجاج هذه المرة بلغة النار التي تأكل الجسد، في يوم عيد المسرحيين في العالم. عيد بإخراج درامي، في الرباط، وأمام وزارة الثقافة. قام بالإعداد لمشهد المأساة في هذا اليوم الرمزي، دون اعتبار لما سيفضي إليه.
يصعب أن أتخيل أحمد جواد يضرم النار في جسده، لكنه فعل بيد اليأس ما هو أبعد من الاحتجاج وأقسى على صاحبه وعلينا جميعاً. اليد التي أغلقت في وجهه المسرح، نافذته الوحيدة على الحياة، مختفية وراء ستار من الكلمات. إلا أن ما حدث مؤلم. ومؤلم أن أتخيل أحمد جواد، مشتعلاً، يصرخ في وجه عالم أصابه الخرس. يصرخ، ولم يعد يحتاج إلى أمل أو يسعى إلى تضامن أو إنصاف. جسد وحيد يصرخ في الشارع العمومي، ومشتعلاً يموت. ثم ها هي الصورة، التي احتفظت بها له عبر سنوات، تنقلب إلى صورة تجسّد القسوة على حلم فنان بالإبداع والتضامن والإنصاف، صورة سوداء، مرفوعة في وجه الجميع، في عيد عالمي للمسرح في المغرب، له صرخة اليأس.