الرئيسية / أخر المستجدات / الصراع على المستقبل بين بيكين وواشنطن

الصراع على المستقبل بين بيكين وواشنطن

د. محمد السعيد إدريس/

إلى أى حد يمكن اعتبار التصريح الذى أدلى به الرئيس الصينى شئ جين بينج بمناسبة العيد المئوى للحزب الشيوعى الصينى توصيفاً دقيقاً لواقع الصراع على القمة العالمية بين كل من الصين والولايات المتحدة. الرئيس الصينى جعل من مناسبة الاحتفال بمئوية الحزب الشيوعى الصينى فرصة لتوجيه رسائل حاسمة للخصم الأمريكى، الذى لم يعد بممارساته العدوانية ضد الصين، مجرد منافس.

كان أهم ما تضمنته هذه الرسائل أن “عهد الصين التى تتعرض للتنمر قد ولى وإلى الأبد”. مؤكداً أن “الأمة الصينية تدخل فى مسار تاريخى لا رجوع فيه”. البعض تشكك فى جدية أقوال الرئيس الصينى لكن الكثيرين وضعوها موضع الجد على الأقل من منظور أن العالم لم يعد ساحة فارغة أمام طموح أمريكى إمبراطورى افتقد أغلب مؤهلاته، وأن حديث المفكر الاستراتيجى الشهير ريتشاد هاس أحد أبرز رجال الخارجية الأمريكية – رئيس المجلس الأمريكى للعلاقات الخارجية، الذى تحدث فيه عن “الأفول الأمريكى”، وخاصة بعد الأزمة الاقتصادية – المالية الأمريكية العنيفة التى اجتاحت الولايات المتحدة عام 2008، عاد ليتحدث فى أحدث مؤلفاته الصادر فى مايو الماضى بعنوان “العالم.. مقدمة مختصرة” عن أن “أمريكا تراجعت عن الحفاظ على قيادتها للنظام العامى، وربما لم تفعل سوى القليل للحفاظ على تلك القيادة، كما شكك فى جدية دور الأمم المتحدة وخاصة مجلس الأمن الذى قطع بأنه “لم يعد له دور فيما يتعلق بالنزاعات الدولية”.

هذا الإدراك الاستراتيجى بتداعى القدرة التنافسية الأمريكى أمام القوى المنافسة الجديدة خاصة الصين وروسيا أخذ يتحول مع تطور المواجهة بين كل من واشنطن وبكين، إلى إدراك بتفوق صينى وجسارة غير مسبوقة فى التعامل مع الأمريكيين على النحو الذى لخصه الرئيس الصينى فى كلمته المشار إليها بمناسبة الاحتفالات الصينية بمئوية الحزب الشيوعى الصينى. ويمكننا أن نشير هنا، بهذا الخصوص، إلى تعليقات الكاتب الأمريكى الشهير توماس فريدمان على المواجهة التى حدثت بين كبار مسئولى السياسة الخارجية فى الولايات المتحدة والصين فى أول لقاء رسمى لهم بعد تولى إدارة الرئيس جو بايدن مسئولياتها عقد فى مدينة انكوريج بولاية ألاسكا الأمريكية على المحيط الأطلسى (18- 19/3/2021) والتى حضرها من الجانب الأمريكى وزير الخارجية انتونى بلينكن وجيك سوليفان مستشار الأمن القومى كما حضرها من الجانب الصينى يانج جيتشي أعلى مسئول دبلوماسى فى الحزب الشيوعى ووزير الخارجية وانج يى. فقد أدرك فريدمان تحولاً ملموساً فى أداء الدبلوماسيين الصينيين يعكس تحولات حقيقية فى بنية القوة الصينية فيما يشير أن الولايات المتحدة، والعالم أضحى أمام “صين جديدة”.

يقول فريدمان تعليقاً على اجتماع ألاسكا أن “الصينيين أوضحوا أنهم لم يعودوا يخشون انتقاداتنا، لأنهم لا يحترموننا كما فعلوا من قبل”، ويشير هنا إلى قول يانج جيتشي كبير صانعى السياسة الخارجية الصينية خلال إحدى جلسات اجتماع ألاسكا، وبنبرة صلفة إلى نظرائه الأمريكيين: “الولايات المتحدة ليست لديها المؤهلات للتحدث إلى الصين من موقع القوة”. ويشير فريدمان إلى صلابة قاعدة القوة التى يتحدث بها الصينيون ويؤكد أن “صلافتهم” لم تأت من فراغ، ويشير بهذا الخصوص إلى اتجاه الصين إلى تحديث قاعدة التصنيع من خلال الاستثمار المكثف للموارد فى 10 صناعات حددها الرئيس الصينى عالية التقنية فى القرن الحادى والعشرين تشمل: الذكاء الاصطناعى والسيارات الكهربائية ومركبات الطاقة الجديدة الأخرى، واتصالات “5G”  وعلم الروبوتات، وتقنيات زراعية جديدة، وكلها مجالات استثمارية جديدة محورها التوجه العميق نحو الابتكار والتجديد للحصول على سلع عالية التقنية باعتبار أن ذلك أهم محددات بلورة من هى القوة التى ستحكم القرن الحادى والعشرين.

هذا النوع من الإدراك الاستراتيجى الأمريكى ليس خافياً عن دوائر صنع القرار الأمريكى، لكنه إدراك محاصر داخل تلك الدوائر وليس مطروحاً للتداول على مستويات الرأى العام على النحو الذى جاسر توماس فريدمان بالحديث عنه. وهذا الإدراك الاستراتيجى للصين هو الذى جعل الولايات المتحدة تتحول فى الأعوام الأخيرة سواء إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب أو الإدارة الجديدة للرئيس جو بايدن للتعامل مع الصين وروسيا، والصين بالتحديد باعتبارها العدو الاستراتيجى.

الأهم من ذلك أن الولايات المتحدة تجاوزت مرحلة الإدراك للصين كعدو استراتيجى إلى مرحلة التعامل معها باعتبارها ذلك العدو. فوزير الخارجية الأمريكى السابق فى إدارة الرئيس دونالد ترامب مايك بومبيو دعا فى خطاب له فى كاليفورنيا (23/7/2020) العالم الحر إلى “الانتصار” على “الطغيان الجديد الذى تمارسه الصين الشيوعية”. واعتبر فى هذا الخطاب أن الصين “هى اليوم دولة استبدادية أكثر فأكثر فى الداخل، وأكثر عدوانية فى عدائها للحرية فى كل مكان آخر”. هذا الإدراك أخذ يتحول فى الأشهر الأخيرة لإدارة ترامب إلى إجراءات على النحو الذى تحدث عنه ستيفن بانون الرجل الذى سبق أن اختاره دونالد ترامب ليكون أول مستشاريه للأمن القومى وأعاده ترامب مجدداً إلى واجهة الأحداث ليبلور “خطة حرب متكاملة لمواجهة الحزب الشيوعى الصينى أولاً ثم إسقاطه”. عاد بانون ليتحدث عن هذه الخطة التى كان سيقودها ويشرف على تنفيذها “مجلس حرب” يضم من أسماهم بـ “فرسان نهاية العالم الأربعة”، وهم بالتحديد حسب ما ذكره: مستشار الأمن القومى روبرت أوبراين، ورئيس مكتب التحقيقات الفيدرالى كريستوفر راى، ووزير الخارجية مايك بومبيو، والمدعى العام ويليام بار.

وإذا كان هذا المجلس تداعى بسقوط ترامب انتخابياً فإن الرجل الذى اختاره الرئيس الجديد جو بايدن ليترأس المخابرات المركزية الأمريكية ويليام بيرنز صاحب التاريخ الطويل بوزارة الخارجية الأمريكية وكانت آخر مناصبه وكيل وزارة الخارجية تحول من دبلوماسى محترف إلى استراتيجى عدوانى هدفه بالأساس المواجهة مع الصين على النحو الذى كشف عنه فى طرحه لرؤيته لإدارة وكالة الاستخبارات الأمريكية المركزية أمام جلسة استماع بمجلس الشيوخ الأمريكى.

فقد حدد بيرنز فى مداخلته عناوين التهديدات التى ستعمل الوكالة على مواجهتها على النحو التالى: الإرهاب والانتشار النووى وروسيا العدوانية وكوريا الشمالية الاستفزازية وإيران المعادية، ومع ذلك كان الجزء الأكثر إثارة للإهتمام هو اللهجة العدوانية للغاية تجاه كل من الصين وروسيا، وبالذات الصين، حيث أعلن أن “القيادة الصينية تشكل أكبر اختبار جيو- سياسى للولايات المتحدة، وأكد أن التركيز على الصين سيشكل مقاربته للاستخبارات، حيث أشار إلى أن نهج قيادته للمخابرات سيركز على أربع أولويات حاسمة ومتداخلة هى: الصين والتكنولوجيا والأفراد والشركات ، ما يعنى أنه يريد أن يكتل المجتمع الأمريكى كله فى المعركة مع الصين من أجل كسب الصراع على المستقبل.

لكن يبقى السؤال مطروحاً: هل يمكن للصين أن تكسب المعركة على نحو ما يأمل الزعيم الصينى أم أن الولايات المتحدة مازالت قادرة على دحر أى منافس لكسب الصراع على المستقبل؟ هذا هو سؤال المستقبل الفعلى .

[email protected]