الرئيسية / أخر المستجدات / العربية والنموذج التنموي
عبد العلي الودغيري

العربية والنموذج التنموي

د عبد العلي الودغيري/
كيف يتنكَّر المتحكّمون في السياسة اللغوية المطبّقة في البلاد لوظيفة اللغة الوطنية المشترَكة (وهي بالمناسبة لغة الأمة العربية الإسٍلامية) وأهميتها القصوى في التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي يصدّعون رؤوسَنا بالكلام عنها؟ وكيف يجوز للجنة المكلفة بإعداد هذا النموذج التنموي الذي استغرق التحضير له أكثر من سنة ونصف، أن تتحدث في تقريرها العام عن كثير من العوامل المساهمة في التنمية، دون أن تستحضر ـــ في جملة ما كان ينبغي استحضارُه ـــ عاملَ اللغة والتنمية اللغوية، وتخصص له ولو فقرة قصيرها مركَّزة، مع أنه من أهم العوامل الضرورية في موضوع التنمية الشاملة عند العارفين به؟
لكن. هل كان بمستطاع الهيئة المسؤولة عن هذا النموذج، بخلفيتها الثقافية الفرنكفونية المكشوفة التي لا يهمها أمر العربية أصلاً، أن تفكر في هذه اللغة وتتحدث عن وظيفتها وأهميتها في الإقلاع الاقتصادي والاجتماعي، وعن ضرورة تنميتها والعناية بها وتعزيز مكانتها في المجتمع وتوسيع استعمالها في مختلف الحقول والمجالات كالتعليم والإدارة والاقتصاد والفلاحة والصناعة والشركات والحياة العامة من أجل توسيع المشاركة في التنمية؟ من الصعب تصوّر ذلك، ولاسيما أنه قد تبيَّن بالملموس أن الصيغة الأصلية لتقرير الهيئة مكتوبة أصلاً بالفرنسية، أي أن الأفكار المتضمَّنة في هذه الوثيقة مصوغة في الأصل بذهنية ومرجعية ثقافية ولغوية فرنسية، ومفكَّر فيها بأسلوب تفكير أجنبي، وحين تبرّعوا علينا بترجمتها إلى العربية، درءاً للشبهات، جاءت الترجمة الفاضحة لهذه الخلفية التي ذكرناها، ركيكة رديئة محشوّة بألفاظ وتراكيب لا يُفهم معناها إلا بالرجوع للنص الفرنسي الأصلي، مع ما يشوبها من أخطاء لغوية ونحوية فادحة يستحيي القارئ العادي من تصور وجودها في وثيقة رسمية للدولة التي صرفت على إعدادها ثروة طائلة، ولم تكلّف نفسها صرف درهم واحد على من يقوم بمراجعتها وتخليصها من مثل هذه الأخطاء المزعجة حقّا، حفاظًا على ما تبقّى من ماء وجه لغتنا الرسمية المشتركة. وهذا إنما يدل على قمة الاستهتار بأمرها والاستخفاف بشأنها والوضع المهين الذي وصلت إليه أحوالها في بلادنا. ولا غرو في ذلك، فالوثيقة أصلاً لم توضع لمستعملي العربية. هذه الفئة لا تهمهم بالدرجة الأولى، مع أنها هي الفئة المستهدفة أساسا بالتنمية أو المفروض أن تكون كذلك. إنما هي موضوعة وموجهَّة لفئة أخرى معيّنة ومحددة: لقارئ أجنبي أو باللغة الأجنبية، ومستفيد أجنبي، وإعلام أجنبي، وملاحظ أو مراقب أجنبي. وهذا وحده دليل كافٍ على أنها ليست وثيقة تؤخذ مأخذ الجِد من قبل الفئات العريضة من المجتمع المغربي بمختلف شرائحه، ولن تكون لها نتائج إيجابية عليها، لأنها لو كانت كذلك لأُخِذ هذا العنصر بعين الاعتبار. ولكانت المسألة اللغوية قد تصدرّت اهتمام السادة أعضاء اللجنة باعتبار ما قلناه. ولو كانت كذلك أيضا لأخذ عامل الديموقراطية وما يرتبط بها من حرية وعدالة اجتماعية وأمور أخرى، نبَّه إليها عدد من الكتاب والمحلّلين، في الحسبان بالقدر الذي تقتضيه أهميتُها القصوى. وتلك بدورها ثغرة من الثغرات الكبيرة في الوثيقة.
وأخيراً، هل كنا تنتظر ممن يفكِّر في الخارجي قبل الداخلي، وفي الأجنبي قبل الوطني، وفي الفئة الضيّقة من المجتمع قبل الفئات العريضة منه، ويحرص على سلامة التعبير بالفرنسية أكثر من حرصه على سلامة لغة بلاده الوطنية الرسمية التي لا أحد يغار عليها أو ينتفض دفاعًا عن كرامتَها، أن يكون له موقف إيجابي من العربية وفهمٌ صحيح لأهميتها ووظيفتها على المدى البعيد في التنمية الشاملة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؟
كان العقلاء من علمائنا يقولون: إدراك الشيء فرعٌ عن تصوّره، ويقولون: فاقد الشيء لا يُعطيه. فهل كنا ننتظر من فاقد التصور والإدراك للشيء الذي نتحدث عنه، أن يعطينا ما هو مفتقِر إليه؟