الرئيسية / أخر المستجدات / الفكرة القومية عند الأوروبيين وعندنا
عبد الإله بلقزيز

الفكرة القومية عند الأوروبيين وعندنا

د عبد الإله بلقزيز/

بين العرب والأوروبيّين، من جهة، والمسألة القوميّة، من جهة أخرى، علاقة مختلفة؛ حيث لا تحتلّ هذه الأخيرة المكانةَ عينَها عند الفريقيْن، كما لا تدخل في هواجس بناء المستقبل بالقدر عينِه من الكثافة والقوّة عند مَن سبق وأنجز وحدتَه القوميّة مقارنةً بمن لم يظفر بعد بتحقيقها. يتعلّق الأمر، هنا، بمقارنةٍ بين حالتين لا تتجاهل آثار التاريخ الخاصّ بكلّ أمّةٍ، ولا آثار التفاوُت في التطوّر بينهما في تبايُن تقدير كلٍّ منها لدور العامل القوميّ في صناعة التقدّم أو في كبح التطوّر. وقد يبدو بعضُ المفارقةِ يغشى هذه المقارنة؛ وبخاصّة عند مقاربة الحالة الأوروبيّة، غير أنّ قليلاً من التمعُّن في الأسباب والعوامل (التي تصنع ما يبدو أنّه مفارقة) يكفي لكي يبدّدها كمفارقة، ويجعل من اليسير فهم السياق الذي بدت فيه كذلك.

يَعْرِف العرب – قواهُم الحيّة على الأقلّ – أنّ حاجتَهم إلى التوحيد القوميّ حيويّةٌ ومصيريّة، وأنّهم لا يملكون أن يحرزوا نجاحاً في التقدّم، أو أن يكسبوا رهانهم الحضاريّ كأمّةٍ ذاتِ اعتبار؛ تشارك غيرَها من أمم العالم في صنع التاريخ، إلاّ إذا كنسَوا عنهم حال التجزئة والتمزّق التي ولّدت في جسمهم الكيانيّ دويلاتٍ صغيرةً، لا حول لها ولا قوّة، وخطت خطوات حقيقيّةً نحو أشكال من التوحيد (الكونفدراليّ أو الفيدراليّ)، تتعزّزُ به قواها وتعْظُم به هيبتُها. وهي تعرف ذلك من تجزئتها التي أوهنتْ قدراتها وأطْمَعَتِ القوى الأجنبيّة في أراضيها وثرواتها، والتي هبطت بدولها إلى درْكٍ أسفل في سُلّم التنميّة ومؤشراتها مقارنةً ببقيّة دول العالم. ولأنّ الأمّة العربيّة أمّةٌ تاريخيّة ذاتُ ذاكرة حضاريّة متشبّعة بالتاريخ، فهي تعرف – من خبرتها التاريخيّة – ما الذي كانت تستطيعه وحدتُها في الماضي، وما الذي هيّأتْه لها من الأسباب كي تنهض بأدوارٍ حضاريّة متقدّمة، وكي تقدّم للإنسانيّة عصارة نهضتها في المعرفة والعلوم والعمران. للأسباب هذه ظلّتِ الفكرةُ القوميّةُ تحتلّ مكانةً معتَبَرة في الوعي العربيّ، كما في أيّ مشروعٍ سياسيّ نهضويّ منذ مئة عام، على الأقلّ، على الرغم من أنّه وُجِدَ، دائماً، مَن ناصَبَها العداء وعالنَها الاعتراض من بعض القوى السياسيّة.

ليست تلك حال الأوروبيّين مع فكرتهم القوميّة أو، قل، لم تعد حالُهم معها كذلك منذ أن دَخَل الأوروبيّون تجربة اتحادهم الإقليميّ (الاتحاد الأوروبيّ)، بعد ردْح من الزمن ارْتَضوا فيه على التعاوُن البينيّ ارتياضاً (منذ قيام السوق الأوروبيّة المشتركة)، واكتشفوا فيه – بالتدريج – أنّ الأمّة الواحدة من أممهم لا تملك أن تستغنيَ في حياتها ومستقبلها عن غيرها (وأنّ التقدّم يأتي الأمَّةَ في علاقتها بخارجها لا بداخلها فحسب)، انصرفوا عن قوميّاتهم، أو عن كونهم أمماً مستقلّة، وباتوا يبحثون عن ذواتهم ومستقبلهم في الفكرة الأوروبيّة فوق – القوميّة. فَعَل ذلك ديمقراطيّوهم، ابتداءً، ثم جمهوريّوهم، وبعدهم اشتراكيّوهُم الديمقراطيّون، فكان من ذلك أن الحدود بين يمينهم ويسارهم، في هذا الشأن، كادت تختفي.

وحده اليمين المتطرّف، المناهض للعولمة وللهجرة التي تهدّد «النقاء» القوميّ الأوروبيّ، ظلّ متمسّكا بالقوميّات، ممانعاً اجتياح الإقليميِّ الأوروبيّ لها. ولقد تجلّت قدرةُ هذا اليمين المتطرّف على صون القوميّات وكبح جِماح الفكرة الأوروبيّة حين نجح في حشد الرأي العامّ، بمناسبة الاستفتاءات على دستور الوحدة الأوروبيّة، وإسقاط الدستور بأغلبيّة معارضة في بلدان عدّة، مثل فرنسا وهولندا، قاطعاً الطريق، بذلك، على وضع الحجر الأخير في بناء عمران الوحدة الأوروبيّة. واليوم، إذ يحقّق هذا اليمين فوزاً كبيراً في انتخابات البرلمان الأوروبيّ، فليس يعني ذلك أنّه تَصالَح مع الفكرة الأوروبيّة، العابرة للقوميات، وبات في جملة قواها السياسيّة الحاملة، وإنّما يعني أمريْن على الصعيديْن الداخليّ والأوروبيّ: أنّه بات أعلى صوتاً وقوّةً قادرة على الوصول إلى السلطة بالاقتراع (بالنظر إلى تهالكِ أحزاب اليسار والوسط ويمين الوسط في معظم أوروبا)؛ وأنّه بات يملك أن يكبح جِماح أوروبا – من داخل مؤسّساتها وبرلمانها – بفرض مصالح القوميات الخاصّة على المصالح القاريّة الجامعة، وربّما بإعادة رسم التخوم بين المصلحتيْن. وهكذا يكون اليمين المتطرف قد أكمل ما بدأتْه أغلبيّة شعب بريطانيا بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي.

وأيًّا تكن صورةُ مستقبل الصراع في أوروبا، بين حَمَلَة الفكرة القوميّة وحَمَلة الفكرة الأوروبيّة فوق – القوميّة، فالذي ينبغي لنا، نحن العرب، ألا نُخطِئ قراءَتَه (هو) أنّه إذا كان قسمٌ من المجتمع السياسيّ ومن الرأي العامّ، في أوروبا، قد تخطّى الفكرةَ القوميّة و«تَحَرّر» من قيودها منصرفاً إلى رابطة أعلى عابرة للقوميّات، فهو ما فَعَل ذلك، أو ما وصل إلى فعل ذلك، إلاّ بعد أن أنجزت أوروبا وحداتها القوميّة، وتمتّعت بمكتسباتها منذ 150 – 250 عاماً، فانفتحت أمام تاريخها القوميّ ممكنات فوق- قوميّة. وعليه، حين يهتدي العرب إلى ما اهتدت إليه أوروبا القرن ال 18 والقرن ال 19، فينجزون وحدتهم القوميّة، يمكنهم ساعتئذٍ أن يبحثوا لأنفسهم عن رابطة عليا فوق – قوميّة يحقّقون فيها مصالحهم.

اترك تعليقاً