الرئيسية / أخر المستجدات / تراجيديا المثقف

تراجيديا المثقف

محمد عبد السلام منصور/

استبعادا للجدل حول تعريف المثقف، أفهم أنه الحاملُ معرفة وأخلاق عصره، الثائرُ ضدَّ الاستبداد والاستغلال، العاملُ على الارتقاء بمجتمعه ماديا ومعرفيا وأخلاقيا. في هذا المفهوم يتشكل- وبخاصة في المجتمع المتخلف- قدرٌ تراجيديٌ، يفرض سلسلة مآسٍ درامية تبدأ بتحصيل المعرفة- أول شروط المثقف- ولا تنتهي باستكمال آخرها؛

إن معرفته ليست فطرةً، ولا إلهاما، ولم يلتقطها طفرة، بل

عمد إلى اكتسابها بإرادته الحرة وفعله الدءوب، إنها تتراكم لديه، عبر سني عمره، مع كل جهد مبذول لتحصيله النظري، وفي كل وقت ممهور لتنمية خبرته العملية، ومع كل لحظةٍ يتأمل فيها قوانين الكون ومجريات الحياة.

ليس من الواجب.. بل يستحيل، على هذه المعرفة، أن تشتمل التفصيلات الدقيقة لكل ما جنته يد العصر من ثمرات الحضارة الإنسانية، وما أضافته إليها، في مجالات: العلم، والفكر والأدب، والفن، والتِّقانة. تكتفي معرفة المثقف، من ذلك كله، بأخذ نظرة عامة، تنطلق منها لتكوين رؤيةٍ بانورامية، تتيح لحاملها النظر، بعين العلم، ومعطى التجربة، ومنطق العقل، إلى مجريات الحياة، خيرا وشرا، حقا وباطلا، حتي يدرك أن عوامل الاستغلال، والاستبداد، تتغذى من حاضناتها الاجتماعية، والاقتصادية والثقافية، والسياسية.

فإذا صارت الرؤية والمرئي هما حقيقة وجدان العارف، ومحرقة ضميره، ومثار رفضه، واستنهاض واجبه الإنساني إزاء مجتمعه المقهور. كان الإنسان حينئذ “حاملَ معرفةِ وأخلاقِ عصره”، مؤمنا بالثورة والتطور، غير أن الإيمان مهما وقر في القلب، فليس بقادر على محو الظلم عن الناس وإزالة أوجاعهم، الإيمان يظل عاجزا عن فعل أي شيء، ما لم يُصدِّقه العمل. إذن فعلى العارف ذي الأخلاق أن يبتدع عملا ثوريا بنّاءً، ينفخ فيه من روح “معرفةِ وأخلاقِ العصر” ويحض الناس على الانخراط فيه، ويمضي معهم ليزيلوا المظالم، ويقيموا مجتمع الحرية والعدل، وقتها ستصدق عليه أصعب الصفات وأنقاها، صفة المثقف.

المأساة – الآن/ هنا – حتمية الصراع، بين الذات العارفة، والواقع المتخلف؛ فكلما اتسعت المعرفة انغمست الذات، في أعماق المجتمع، ضميرا عاليَ الحساسية، حيال: الإستغلال، والإستبداد، ومن سخريات القدر أن يتم هذا في الوقت الذي يكون فيه الاستبداد قد تواطأ مع التخلف على تعطيل إحساس المجتمع بالظلم، وأَدرج المظلومين أنفسَهم ضمن أدوات المستبد التي يطفئُ بها نورَ المعرفةِ، وثورةَ الضميرِ، في هذه العلاقة الشوهاء يصير الظالمُ والمظلومُ، هما جوهر التخلف، النقيض الموضوعي للذات العارفة، الأمر الذي يغذي في نفسه اليأس من التحرر، ويدفعها إلى الستسلام للواقع المتخلف.

قَدَرُ العارف، حتمية المعركة، إما مع واقعه، وإما مع ضميره.

عليه، أن يختار، وهو يحاور ضميره، أيّ البوابتين سيعبر إلى معركته المحتومة، أهي بوابة الرفض، والثورة، أم بوابة القبول والاستسلام، الأُولى بداية درب طويل ينتهي بالتحرر والنهوض، وهو مهيأ لمن ارتضى شظف العيش وإيذاء السلطان وبذل النفس، والفوز بشرف المثقف، أما الثانية فتفتح الطريق إلى تبرير الخضوع والطاعة، مقابل أمان ورعاية الظالم، ولا يسير فيه عارفٌ إلا مذبوح المعرفة والأخلاق والضمير، حاملا لعنتُهُنَّ، أمثولةً للخوف والخيانة.

قد يكون المثقف فيلسوفا، شاعرا، فنانا، أو عاملا عضليا، لا يهم ما دام هو “الحامل معرفة وأخلاق عصره، الثائر ضدّ الاستبداد والاستغلال العامل على الارتقاء بمجتمعه ماديا ومعرفيا وأخلاقيا”.

لكن أيا من هؤلاء لن يكون مثقفا، إن لم يرتق، بعلمه، وتجربته، وتأمله، إلى درجة المعرفة.. أو ارتقى لكنه لم يحمل أخلاق عصره.. أو حَمَلها وجبن عن مقاومة الاستبداد والاستغلال.. أو قاوم ولم يعمل على تطوير مجتمعه، ففي الحالة الأولى، سيعاني مأساة الفيلسوف غير العارف، وفي الثانية، مأساة العارف عديم الأخلاق، وفي الثالثة، مأساة الورِعِ مفقود الشجاعة والصدق، وفي الرابعة، مأساة الثائر الفوضوي؛ فإذا ما استكمل شروط المثقف كلها أدركته مأساته، الحقيقية.. الاغتراب.. سوف يحيا ويموت غريبا، بين من أعطاهم النفس وهم غافلون، ومع قسوة قدره هو راض بما اختار؛ فروحه تتدفق حبا للمعرفة، والأخلاق، وخير الإنسان.

إن مفهوم المثقف هذا ينبثق من مدلول (المثقف) في العربية.. السوي.. المستقيم، ومدلول الثقافة (culture) في الإنجليزية.. التهذيب.. الإصلاح، ومن سيرة المثقف، عبر التاريخ. واضح أن هذا المفهوم ذاته يتجاوز مفهوم المثقف التقليدي (كثير المعلومات)، ولا يقف عند مفهوم المثقف العضوي، حسب أنطونيو غرامشي. إن مفهومنا يتطلب صيرورة الفكرِ والعلم والخبرةِ، معرفةً، والقيمِ أخلاقا، وتحوُّلَ المعرفةِ والأخلاق إيمانا،.. إيمانا بحق الناس جميعا، في حياة إنسانية كريمة، تسودها الحرية والمساواة، ويتطلب أخيرا أن يتجسد هذا الإيمان، في عمل ثوري بناءٍ دائم النضال، من أجل استمرار التطور الإنساني نحو الأكرم والأعدل. مثقفنا، حتميُّ الثورة، ضد الباطل والاستسلام. حتميُّ الوقوف مع الحق والتحرر والتقدم، وأيُّ العارفين، تراه قد اتصف بهذه الصفات، فلا غرابة أن ترى التاريخ قد بسط إليه يدا من التواضع ليرفع قامته عاليا، وهو ينادي في الناس، كل لحظة: ألا إن هذا هو المثقف الحق.