الرئيسية / أخر المستجدات / ثقافة المقاطعة

ثقافة المقاطعة

حسن الوزاني/

المقاطعة الثقافية والأكاديمية هي الوسيلة الأفضل لإضعاف الصورة المغلوطة التي تقدمها إسرائيل عن الفلسطينيين وسعيها لمحو تاريخهم.

شاءت الصدفة أن تعود فلسطين إلى واجهة الإعلام، خلال الشهرين الأخيرين، عبر تزامن عدد من الأحداث، التي تجمعها حملة المقاطعة في بعدها الثقافي والأكاديمي لإسرائيل. ولعل الحدث الأهم هو إقدام طلبة كلية الحقوق بجامعة هارفارد الأميركية، التي تعتبر الأعرق على مستوى البلد، على اختيار طريقة ذكية للإعلان عن تضامنهم مع القضية، حين فضلوا الانسحاب من محاضرة القنصل الإسرائيلي في نيويورك داني ديان، تاركين إياه يعد أصابعه داخل قاعة فارغة.

وإذا كان ذلك قد حدث في قلب صرح علمي كبير داخل بلد يجول فيه اللوبي المناصر لإسرائيل بإمكانياته الإعلامية والمالية الكبيرة، فقد اختار عدد من الفنانين التشكيليين الذين يُحسَبون على أهل القضية المشاركة في “بينالي القدس للفن اليهودي المعاصر”، تحت شماعة التسامح والحوار بين الديانات.

ولعلها المرة الأولى التي يشارك فيها فنانون عرب بوجوه مكشوفة، بعد أن كانت إسرائيل تضطر إلى اللجوء إلى التحايل من أجل توريط الفن العربي. كما حدث قبل سنة، حيث تم تنظيم معرض بتل أبيب، تحت اسم “فن عربي مسروق”، واختار منظمو المعرض عرض أعمال فنية لمبدعين عرب، دون استشارتهم، أو ذكر أسمائهم، تحت ذريعة تجنب رفضهم المشاركة في معارض إسرائيلية، بسبب موقفهم المعارض للتطبيع.

قبل عقد من الزمن، وفي زحمة تناسي القضية، ستنبثق حركة المقاطعة الثقافية والأكاديمية لإسرائيل. والأمر المفارق أن ذلك تم انطلاقا من دولة أوروبية بعيدة عن المنطقة وهي إيرلندا، مع صدور “البيان الإيرلندي من أجل العدالة بفلسطين”، الذي يحمل توقيعات عدد من الوجوه السياسية والثقافية والأكاديمية.

مع توالي السنوات، ستنتشر الحركة ليلتحق بها آخرون، ولتصل إلى عدد من البلدان الأخرى، بما فيها البلدان التي يعشش فيها اللوبي الصهيوني المعادي للقضية الفلسطينية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية. إذ ستختار الجمعية الأميركية للدراسات أن تكون في الواجهة. وهو الأمر الذي يحمل أكثر من دلالة. وذلك اعتبارا، من جهة، لعراقة هذه المؤسسة العلمية التي تهتم بالبحث في تاريخ وثقافة البلد، ومن جهة أخرى نظرا لحجمها، حيث تضم أكثر من خمسة آلاف عضو، بالإضافة إلى شبكة مكتبات تشمل أكثر من ألفي مكتبة.

وسيفتح هذا الموقف الباب أما التحاق مؤسسات علمية أميركية أخرى، ولعل من أهمها الجمعية الإنتربولوجية الأميركية وجمعيات اللغات الحديثة وغيرها.

ولذلك لم تمر مواقف هذه المؤسسات العلمية الداعية إلى مقاطعة الجامعات الإسرائيلية دون أن تترك وراءها نقاشا كبيرا، يحمل في بعض الأحيان رائحة شماعة تهمة معاداة السامية.

ولم تتوقف نجاحات الحركة هنا. حيث استطاعت خلال السنة الجارية،  على سبيل المثال، ضم الجمعية البريطانية للدراسات الشرق الأوسطية إلى صفوفها، وأيضا إقناع شركة ميترو مدينة مكسيكو بتوقيف المعرض الفوتوغرافي “نظرة حول إسرائيل”.

أما الأمر المدهش فهو أن تنتقل دعوة المقاطعة الثقافية والأكاديمية إلى داخل إسرائيل نفسها. وسيتسم المشهد بصدور تقرير علمي هام، لم يتم الانتباه إليه كثيرا إلى الآن. ويفضح التقرير، الصادر عن “مركز  الإعلام البديل” بالقدس والذي أعده الباحث في مجال الاقتصاد شير هيفر، تورط الجامعات ومراكز الأبحاث الإسرائيلية في خدمة أهداف الاحتلال. وهو الأمر الذي يتم سواء من خلال تكريس الكثير من أبحاث الجامعات لتطوير قدراته العسكرية، أو العمل على محو تاريخ وثقافة فلسطين، أو عبر محاربة نشوء حركة علمية فلسطينية داخل إسرائيل من شأنها خلق التوازن. وهو الأمر الذي تعكسه، على سبيل المثال، النسبة المحدودة للفلسطينيين الذين يتابعون دراساتهم على مستوى الدكتوراه داخل الأراضي المحتلة، والتي تنحصر في ثلاثة في المئة فقط.

والأكيد أن المقاطعة الثقافية والأكاديمية الداخلية لا تقف عند هذه الدراسة. بل يحدث أن تُطلَق عدد من المواقف الدالة لعدد من المثقفين والكتاب الإسرائيليين الذين ما زالوا يتشبثون بعدالة قضية الشعب الفلسطيني.

قبل ثلاث سنوات، أصدر المخرج  الإسرائيلي إيال سيفان، رفقة أرميل لبواري، كتابهما الشهير “مقاطعة مشروعة”. ويقف الكتاب عند أهمية المقاطعة الثقافية والأكاديمية، باعتبارها الوسيلة الأفضل لإضعاف الصورة التي تقدم إسرائيل باعتبارها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. كما يفضح الكتاب الترابط الكبير بين المؤسسة العسكرية والجامعة ومنتجي الثقافة. بينما لا يتردد إيال سيفان في فضح زملائه المحسوبين على اليسار، الذين يعارضون المقاطعة، مشبها إياهم بحراس معبد المشروعية.

كان قد جمعني حوار مع الشاعر الكندي إميل مارتل بخصوص ما يحدث بفلسطين. لم ينس إميل مارتل، وهو الذي خبر العمل الدبلوماسي من خلال اشتغاله بسفارة كندا بإسبانيا زمن حكم فرانكو، أن يحذرني من كون رأيه قد لا يعجبني، ثم كتب بالحرف “أعيش بعيدا عن المنطقة، وأجد نفسي مشمئزا من هؤلاء البلهاء الأصوليين الذين يبحثون، بأي طريقة، بما فيها إرهاب الأبرياء، عن تدمير دولة. وكما يحدث في مثل هذه الظروف، تستعمل هذه الدولة كل الطرق وكل الإمكانيات من أجل الدفاع عن نفسها ضد الذين يريدون تدميرها. إسرائيل دولة ديمقراطية  وأنا أحترم الأنظمة الديمقراطية” (كذا)!.

إميل مارتل قد لا يكون الشاعر الكندي الوحيد الذي ينظر إلى مأساة فلسطين من هذه الزاوية. ولحسن الحظ أن أغلب شعراء منطقة الكيبك يحتفظون بفلسطين داخل قصائدهم وداخل قلوبهم. لكنني رغم ذلك، لم أفهم شخصيا كيف يستطيع شاعر أن يجعل من مجرمي الحرب ضحايا يدافعون عن دولتهم الديمقراطية، وألا ينتبه إلى كل هذا الألم الذي ينبعث من صور الضحايا من الأطفال والرضع. قد يفعلها السياسيون، وقد فعلوها بمكر أكثر من مرة، بما فيهم الإخوة. أما الشاعر فلا عذر له.  كتبت ذلك لإميل مارتل، ثم سألته دون لباقة “هل أنت شاعر بالفعل؟”. لم يجبني. ولا يهمني أن أفقد صديقا يحب الديمقراطية، على طريقته، حتى لو كانت حمايتها تقتضي قتل شعب بكامله.

اترك تعليقاً