الرئيسية / أخر المستجدات / حركة مناهضة العولمة

حركة مناهضة العولمة

د عبد الإله بلقزيز/

إذا كانتِ العولمة مقترنةً بالقوّة، حكماً؛ وإذا كان القويّ هو مَن يفرض عولمته على الآخرين فيخْلَع عليها سماته ومنظومة قيمه، فإنّ الدّولة الأقوى في العالم حين ابتداءِ العولمة، وهي الولايات المتّحدة الأمريكيّة، تقيم الدّليل على صحّة هذه المعادلة؛ حيث إنّها هي من أقْدَرتْها قوّتُها، في ذلك الإبّان، على أن تفرض العولمة على العالم: العولمة التي كانت هذه الدّولة سبّاقة إلى إنضاج شروطها العلميّة والاقتصاديّة والتّكنولوجيّة وإلى تدشين انطلاقتها، بل التي أَكْسبتِ العولمةَ هيئةً بعينها عُرِفت بها، في مستهلّ أمرها، وأَظْهَرُ سمات تلك الهيئة اقتران العولمة بالغرب والنّظام الرّأسماليّ وبالولايات المتّحدة ونموذجها الاجتماعيّ-الاقتصاديّ على وجْهٍ خاصّ.

بدت العولمة، في سياق القيادة الأمريكيّة للعالم، وكأنّها تمثّل أداةً جديدة من أدوات القوّة التي تستطيع أن تتوسّلها لتحقيق الإخضاع والسّيطرة والهيمنة على دول العالم مجتمعة؛ وهو ما تَزَامَن مع نشوء ظرفيّةٍ دوليّة جديدة طَبَعها ارتفاعُ حاجزِ كلِّ قوّةٍ اعتراضيّة على السّياسات الغربيّة والأمريكيّة غداة انهيار الاتّحاد السّوفييتيّ والمعسكر الحليف له شرق أوروبا. وما كان لسيرة الولايات المتّحدة السّياسيّة أن تُطَمْئِن أحداً في العالم إلى أنّ العولمة التي تقودها هذه الدّولة ستختلف عمّا اقترحتْه السّياسات الأمريكيّة على البشريّة من الأوضاع. وهي، من جهتها، لم تبذل من الجَهْد ما به تُهَدِّئ المَخافات أو تَحْمِل أكثر العالم على تبيُّن ما تقدّمه له العولمة من فرص جديدة للتّقدّم، بل سارتْ في العولمة سيرتَها في ما قبلها إلى الحدّ الذي وَقَع فيه التّماهي بينهما!

بات مألوفاً، حينها، أن يُنْظَر إلى العولمة بوصفها أَمْرَكَةً للعالم تجري على نطاقه الأوسع الكونيّ، محمولةً على مداميكَ صلبةٍ جديدة أَظْهرُها زوال الاستقطاب الدّوليّ ونشوء القُطبيّة الواحدة، وقيام الثّورة التّكنولوجيّة الجديدة (ثورة الاتّصال والمعلومات) وانفتاح إمكانات استثمار نتائجها في استِخداماتٍ مختلفة قادرة على تخطّي الحدود والدّفاعات والسّيادات. ولقد أوْحَى بتَأَمْرُكها أنّ العولمة أفصحت عن ميْلٍ حادّ إلى الهيمنة واحتكار الثّروة والسّلطة والمعرفة من قِبَل مَن يديرون فصولها ومؤسّساتِها، وخاصّةً الأمريكيّين منهم.

ما الذي كان يمكننا أن ننتظرهُ، أمام تَغَوُّلِ هذه العولمة الرّأسماليّة وابتلاعها العالمَ وتَعَسْكُرِها لفرض الإخضاع القسريّ، غير أن تلتئم في وجهها حركاتٌ معارضةٌ شتّى بدأت بدولٍ بعينها من الجنوب، ثمّ بحركاتٍ شعبيّة ذات طابعٍ محليّ لتنتهيَ إلى حيث صارت حركةً عالميّة لمناهضة العولمة؛ ذات برنامجِ عملٍ تحشيديّ وتوعويّ اعتراضيّ تَجَسَّد في عشرات الاحتجاجات الشّعبيّة العارمة في مناسبات عالميّة معلومة؟ هذا مسارٌ يقضي به قانون التّناقض والصّراع بين الأضداد؛ وهو -هنا- صراعٌ بين قوى العولمة المتنفِّذة والمستفيدة والقوى التي يقع عليها فعْلُ العولمة العنيف فيُلحِق بمصالحها أبلغ الأضرار، ويدخل في جملة هذه دولٌ وشعوبٌ وحركات سياسيّة. والحركات السّياسيّةُ هذه ليست جميعُها من المنبت الفكريّ والأيديولوجيّ عينِه، وإنّما متعدّدة المصادر والتّوجّهات ولكنّها -على اختلافها- تجتمع على مصلحةٍ عليا مشتركة: الاعتراض على العولمة وقيمها الهيمنويّة، والضّغط على قواها لحمْلها على احترام حقوق شعوب العالم ومصالح دوله. وخلافاً لِمَا يمكن أن يتخيّله المرءُ، في هذا الباب، من انْحصار فعْلِ الاعتراض على العولمة في بلدانٍ من منظومة الجنوب، حصراً، فإنّ حقيقة منابعها غير ذلك. صحيح أنّها بدأت جنوبيّة، في أمريكا اللاتينيّة ومراكزها الكبرى (البرازيل، المكسيك، الأرجنتين…)، نظراً إلى ما تَذَّخِره بلدانها من تقاليد نضاليّة عريقة، إلا أنّ حركةَ الاعتراض تلك سرعان ما اخترقت شمال القارّة الأمريكيّة وبلدان أوروبا ومراكز الرّأسماليّة في آسيا (اليابان، كوريا الجنوبيّة…)، لتتحوّل إلى مناهَضَةٍ عالميّة بحجم الظّاهرة التي تعالِنها الاعتراض.

قد لا تكون حركة مناهضَة العولمة قد غيّرت شيئاً في صورة العولمة ومسارها ومضمونها الهيمنويّ ومؤسّساتها، غير أنّها أنجزت -قطعاً- مهمّة في غاية الأهميّة، هي: فضح العولمة بوصفها عدوانَ قِلّةٍ من البشر على مصالح البشريّة جمعاء.

 

[email protected]