الرئيسية / أخر المستجدات / حقوق الإنسان كقضية عالمية
صورة ترمز لحقوق الإنسان

حقوق الإنسان كقضية عالمية

عبد الله السناوي/

تكتسب قضية حقوق الإنسان زخمها وإلهامها من المعاناة الإنسانية نفسها، الحروب والثورات، المشانق والاعتقالات، الفقر والحرمان الاجتماعي، وقهر الشعوب المغلوبة على أمرها تحت سطوة الاحتلالات الأجنبية.

لا نشأت بمصادفات الحوادث ولا اخترعها أحد بداعي التآمر. كانت الثورة الفرنسية نقطة تحول فاصلة في التاريخ الإنساني؛ حيث أفضت إلى صعود طبقات جديدة وأفكار جديدة وذبول طريقة في الحكم تنتسب إلى القرون الوسطى الأوروبية.

على الرغم من مرور أكثر من قرنين على اندلاعها، فإن السجال الحاد حول وقائعها وتحولاتها وأبطالها لم يمنع الإقرار العام بدورها الجوهري في تغيير مسار التاريخ الإنساني.

يعزى للثورة الفرنسية أنها أطلقت الأفكار الأساسية في الحقوق والحريات العامة إلى آفاق لم تكن متخيلة، العالم بعدها اختلف بصورة جذرية عما كان قبلها.

في الحصاد الأخير بقيت قيمها الكبرى تؤثر وتلهم حكم الشعوب، وتوارت صفحاتها الدموية، وقصص المقاصل التي أطاحت بالرؤوس.

يعود إلى خبرتها وأفكارها الفضل الأول في صياغة العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، الذي تبنته الأمم المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية. من قلب المعاناة نشأت ضرورات أن يكون هناك عهد دولي يحفظ الحق في الحياة ويصون الحريات  والحقوق الأساسية بصيغ قانونية منضبطة .

بقدر آخر لعبت الثورة السوفييتية أدواراً لا يمكن التهوين منها في إلهام فكرة بناء عالم جديد أكثر عدلاً. أفضل ما يُنسب إليها أنها ساعدت على نحو جوهري في طرح قضية العدل الاجتماعي بأفق جديد.

على منوال مماثل لعبت الثورة الصينية أكثر الأدوار أهمية في الشرق الآسيوي؛ حيث الكتل البشرية الهائلة التي ترزح تحت فقر مدقع وحروب بلا نهاية مع الأفيون والذباب.

نجح الصينيون في الانتقال من الثورة إلى الدولة، ومن التخطيط المركزي الصارم إلى الانفتاح الاقتصادي المحسوب، بأقل كلفة سياسية ممكنة، وأسسوا واحدة من أكثر التجارب استقراراً بزخم التراكم.

طورت الرأسمالية من نفسها تحت ضغط الأفكار الاشتراكية، ونشأت في كنف الدول الغربية حركات جديدة أطلق عليها «الشيوعية الأوروبية»  بتأثير أفكار رجال من حجم «تولياتي» و«جرامشي» في إيطاليا  دمجت ما بين الفكرتين الاشتراكية والديمقراطية.

نشأت في أوروبا الشرقية نزعة قوية أطلق عليها «الاشتراكية بوجه إنساني» تجسدت في «ربيع براج» ..

بقوة الأفكار والتصورات، على الرغم من الأخطاء والمثالب، ألهمت التجربة السوفييتية بأكثر من أي تجربة أخرى الجيل الثاني من حقوق الإنسان بتبني الأمم المتحدة العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

بصورة أو أخرى وظفت قضية حقوق الإنسان في الدعايات الأيديولوجية في سنوات الحرب الباردة حين كان العالم منقسماً أيديولوجياً واستراتيجياً واقتصادياً بين معسكرين كبيرين يتصارعان على النفوذ والقوة.

التحالف الغربي يركز على انتهاك الحقوق السياسية والمدنية لدى الطرف الآخر في الصراع الدولي المحتدم فيما القطب السوفييتي يطعن في أوجه غياب العدالة الاجتماعية لدى الحلفاء.

الدساتير الوطنية الحديثة تنطوي على الحقوق بكافة تجلياتها ونصوصها المنضبطة ومن بينها استقلال القرار الوطني.

في سنوات ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية انتصرت الثورتين الصينية والفيتنامية، انتقضت حركات التحرير الإفريقية بطلب الاستقلال الوطني، ورفعت حركات التحرير في أمريكا اللاتينية سلاح حرب العصابات ضد الهيمنة الأمريكية- كما حدث في كوبا.

كان ذلك تأسيساً للجيل الثالث من حقوق الإنسان، الحق في التحرر والاستقلال الوطني وتقرير المصير. لم يضمه عهد دولي ثالث، لكنه فرض نفسه بعدالة القضية وإرادة الشعوب الحية.

لم يكن العالم العربي خارج الاستقطاب الفكري والسياسي، الذي صاغ تلك المرحلة.

حاولت مجموعة دول عدم الانحياز بقيادة «جمال عبدالناصر  مصر» و«جواهر لال نهرو  الهند» و«جوزيب بروز تيتو  يوغوسلافيا» اختراق النظام الدولي الثنائي القطبية وتأسيس آخر وفق مبادئ «باندونج».

ألهمت ثورة يوليو الجيل الثالث من حقوق الإنسان بأكثر من أية تجربة تحررية أخرى، حققت في الوقت نفسه اختراقاً غير مسبوق في التاريخ المصري كله بقضية العدالة الاجتماعية، غير أنها أخفقت في أن تبني نظاماً تعددياً ينتسب إلى القيم الديمقراطية.

بعد صدمة «يونيو» جرت مراجعات واسعة لأسباب الهزيمة وأوجه الخلل في بنية النظام السياسي قادها «عبدالناصر» بنفسه داعياً إلى مجتمع سياسي مفتوح و«دولة المؤسسات والقانون» والقضاء على مراكز القوى، ودخل باجتماعات مسجلة إلى ما يشبه المحاكمة لنظامه كله.

هذا ما يجب أن نتعلمه من التاريخ. لا فصل ولا مقايضات بين الحقوق الأساسية للمواطنين السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والتحررية على قدر المساواة.

وهذا ما يجب أن نتعلمه من العصر.