الرئيسية / أخر المستجدات / في ذكرى الأديب محمد الصباغ

في ذكرى الأديب محمد الصباغ

نجيب العوفي/
و(عنقود ندى) عنوانٌ لإحدى روائع محمد الصباغ ، أستقيه هنا عنوانا لهذه الكلمة – الشهادة ، لانه يقطّر لنا زُلال إبداعه .
في حوارمبكّرمع محمد شكري أجراه الزبير بن بوشتى ويحيى بن الوليد، يقول عن بداية ميوله الأدبية وكيف ركبه هاجس الكتابة / (كنت في عام 1960 تلميذا في مدرسة المعلمين في تطوان ، ولم تكن الكتابة هاجسا من هواجسي أو لم تكن تخطرعلى بالي . كنت أحد روّاد مقهى كونتيننتال في تطوان . وكان يرتاد هذا المقهى روّاد ينتمون إلى الثقافة وعلى رأسهم محمد الصباغ .(..) سألت شابا كان جالسا جواري عن ذلك الشخص الذي يهتمون به أكثر من الآخرين . قال إنه الكاتب محمد الصباغ . هنا فكرت في أن الكتابة لها تقديركبير. وبما أنني أنتمي إلى طبقة مسحوقة ومغمورة فإذا أنا أصبحتُ كاتبا مشهورا فسيُعطى لي نفس الاعتبارالذي يُعطى للصباغ .) جريدة القدس العربي – 30/01/2002
وفي سياق قريب من هذا التاريخ ، كنّا ثلّة معدودة من طلبة القاضي عياض بتطوان شُداة وهواة أدب ، نتسلل مساء إلى شارع محمد الخامس لنلقي نظرة فضولية على الكاتب الشهيرمحمد الصباغ جالسا بأبّهتهة الرومانسية في مقهى كونتيننتال أو احد النوادي المجاورة . كنا نسْترق إليه النظرونتهيّب من الدنوّ منه ، مكتفين بقراءته عن بعد في خلواتنا الأدبية الأولى . وقد ظل هذا التهيّب يلازمني شخصيا باستمرار وإن استوى القلم بين الأصابع مع الأيام . فلم أكتب عنه إلا في فترة متأخرة لأفرغ مكنون ومخزون إعجابي بادبه الطليّ البهيّ .
وفي الرباط تسنىّ لي ما لم يتسنّ في تطوان ، فحظيت باللقاء مع الصباغ واغتنام مُجالسته ومُؤانسته . وكان ذلك ، للمفارقة ، في العِقد الأخير من حياته بعد طفولته الستين ، حسب عنوان سيرته الرائعة . كان يهاتفني بين الفينة والأخرى ، لألتحق بدارته الوريفة المُنيفة
(روْح وريحان) بحي الرياض في الرباط ، ونغْنم أويقات أدبية بهية وشجية من أجمل
الأويقات التي غنمتها، بمنأى من عُرام وزحام اللقاءات الثقاقية والإيديولوجية التي كانت تملأ فضاء مرحلتنا .
ومعروفٌ عن الصباغ كآخر الرومانسيين العرب الكبار، أنه كان محبّا للعزلة ناسكا في محرابه كصديقه المهجري ناسكِ الشخروب ميخائيل نعيمة . والمهجريون بالمناسبة هم أعزّخلانه وأخْدانه ، إيليا أبو ماضي ، ميخائيل نعيمة ، جبران خليل جبران ، أمين الريحاني ، نسيب عريضة ، بولس سلامة الخ . كما كان الشعراء الإسبان في الضفة الأخرى الإيبيرية ، رفائيل ألبيرتي ، خيراردو دييغو ، خوان رامون خيمينيث ، فيثينتي أليكساندري ، تيرينا ميركادير.. تكْملة العائلة .
محمد الصباغ / ورائع ان يفكر الجيل الأدبي التطواني الجديد في تذكّره واستعادته ، وهو الذي حكى كثيراعن تطوانه .
رائع أن يُستعاد هذا الرومانسي الكبير في زمن الجوائح والحروب والانهيارات .
في حضرة هذا المبدع الخلاق تأخذك روعة اللغة التي ينحت بحِذق ومهارة أحجارها الكريمة وفُصوصها النفيسة ،ويطرّز بشعرية بُرودها ونصوصها ، حتى أضحى نسيجَ وحده في هذا المضمار. أضحى أسلوبا فرْدا متميزا ومدرسة أدبية وبلاغية قائمة بذاتها وصفاتها .
إن محمد الصباغ يقدم لنا في هذا المجال تجربة إبداعية غنية ومثالية ، ما أحوجنا في ظروفنا الحالية والآتية حيث طمّ سيل العولمة وجوائحها وطمّ معه سيل الغثاثة الأدبية ، ما أحوجنا إلى أن نُرهف لها السمع ونعيد قراءتها من جديد في سياق الهُنا والآن .
ولا بد هنا من لحظة مكاشفة ونقد ذاتي صريح ، ونحن نستعيد ذكرى هذا الرجل ونعترف له بأفضاله وسوابغ سوابقه الأدبية . فقد لاقى منا للأسف بعضَ عقوق وجُحود في زحمة انشغالاتنا ومعاركنا الحداثية والإيديولوجية على امتداد السبعينيات والثمانينيلت والتسعينيات من القر الفارط . وكنا ننظر إلى الرومانسية والأدب المجنّح كتوعّك أدبي ونكوص عن معمعان الحياة .
لكن الإبداع الحق لا ينصُل بريقه ولا ينضُب ماؤه ورُاؤه مع تقلبات الأيام والليالي . بل لا تزيده هذه التقلبات إلا بهاء ورواء .
وشخصيا ، لا أملك إلا أن أعود بين فينة وأخرى إلى ارتشاف زلال الصباغ وعناقيد نداه .
إنه باقة زهر ، في فضاء كثر فيه الحسَك والشوك .
وسمفونية راقية ، في طوفان من الهرْج والمرج .
وشخصيا أيضا ، لا يمكن لي أن أتحدث عن الصباغ ، إلا بشيء قريب من لغته وبأسلوب قابس من مشكاته . وأعترف أنه أحد أساتذتي ومراجعي الإبداعية الأولى .
محمد الصباغ ، عنقود ندى إبداعي مكتنز وريّان ، يروّيك كل مرة بشَهده وزلاله .
وليس قصدي في هذه الكلمة ، أن أشرّح هذا العنقود من الندى وأعتصر حباته واحدة تلو الأخرى . بل هي تأملات وتداعيات على هامش التجربة .
وحسبي أن أشير إشارة إلى بعض ريادات ومناقب أدبية ، ترتبط بإسم محمد الصباغ .
المنْقبة الأولى ، إن محمد الصباغ صاحب أسلوب فريد وطليّ في الكتابة الأدبية ، يجمع بين شعرية الشعر وشعرية النثر ، ويضْفر منهما سبيكة أدبية فاتنة ومتميزة تحمل بصمته الخاصة ووشمه الخاص . إنه أحدُ أعمدة ورَادة قصيدة النثر البارزين في عالمنا العربي منذ عقود مبكّرة وبعيدة ، كان فيها هذا النوع الأدبي طرير العود يتلمّس أولى خطاه على الطريق .
ومن أسف ، فإن كتاّب قصيدة النثر المتكاثرين عندنا أغفلوا أو تغافلوا هذا الأب الروحي الرائد . وهو لو علموا وأنصفوا ، حُجتُهم وقدوتهم ومرجعهم .
المنقبة الثانية ، إن محمد الصباغ يُعد بحقّ أحد مؤسسي الأدب المغربي الحديث ومجدّدي لغته وأسلوبه من بعد رُقاد وكساد ، وذلك من خلال كتاباته الجديدة والجريئة والرشيقة التي توالت على امتداد الأربعينيات والخمسينيات ، أيام كان التقليد المحافظ جاثما بثقله على الساحة الثقافية والأدبية .
لقد كانت هذه الكتابات الصباغية ومن موقع هذه المدينة الغرّاء على وجه التحديد تطوان ، كانت نسمة عليلة وجميلة تهبّ على فضائنا الثقافي ، وضخة دم حارة تنسكب في شرايين الأدب المغربي .
كان الصباغ بُستانيا ماهرا شذّب بستان الأدب من أعشابه اليابسة وغرس فيه فسائل جديدة فتية وحداثية .
المنقبة الثالثة ، إن محمد الصباغ يُعد المؤسس والمُبتكر الأول لفكرة اتحاد كتاب المغرب العربي ، ومن موقع هذه المدينة أيضا ، في منزل عبد الخالق الطريس أولا على وجه التحديد ، حيث صدع بهذه الفكرة في جمع من المثقفين والأدباء ، ثم في المكتبة العامة بعدئذ في نيابة التعليم بتطوان حيث كان يشتغل .
في إحدى زوراتي للفقيد أمدني بنسخة من شهادة مرقونة بتحبيره بعنوان (يسألونك كيف تأسّس اتحاد كتاب المغرب ) يقول في إحدى فقراتها /
( كان ذلك ما كان ..
كان في إحدى عشياّت الشهر الخامس من السنة الستينية ، بمدينة الحمامة هذه ، وبالضبط في مكتبتها العامة المقروءة إذاك في مُنعطفات حدائق نيابة التعليم .
في وارف هذه الكتبية التطوانية التي كنت أشتغل فيها مديرا لخزانة الصحف التابعة لها . وفي ذات العشية كان مؤلف (تطوان تحكي) على موعد مرتجل مع (الشخصاني) الصديق المرحوم محمد عزيز الحبابي، الذي وَفدعلى تطوان للمشاركة في ندوة (الفلسفة ومدارسها) التي نظمتها جمعية (نبراس الفكر) التطوانية .
هناك التقيا ، فامتدت بهما تداعياتُ حديثهما إلى الوضعية الثقافية والأدبية ببلادنا ، وضرورة العمل على تنشيطها وتنظيمها ، فاقترحتُ عليه تأسيس (رابطة للكتّاب) سعيا للنهوض بهذه المهمة النبيلة . )
ولم يمض وقت قليل ، حتى أضحت الفكرة واقعا مشخّصا وكيانا ملموسا .
ولنلاحظْ أن الفكرة التي صدَع بها الصباغ كانت تتغيّا في الأساس ، لمّ شمل كتاب وأدباء المغرب العربي قاطبة في مؤسسة معنوية واحدة مؤلّفة بين القلوب والأقلام .
كانت الفكرة تنزع منذ البدء منزعا وحدويا طموحا . وقد ظل الصباغ وفيا لاتحاد كتاب المغرب فاعلا فيه وحادبا عليه على توالي أجياله ومكاتبه ، وكثرة مشاكله ومتاعبه . لا يصيدُ في ماء عكر ولا يوالي هذه الجهة على حساب تلك .
وليس كتابه الجميل (أطالب بدم الكلمة) سوى تحية أدبية غيورة لروح هذا الاتحاد ونضال أجياله .
هذا في الوقت الذي أصبحنا فيه الآن متخلفين عن الرواد بمسافات يُرثى لها . وأصبح فيه اتحاد كتاب المغرب ، جسدا مريضا متنقلا بين غرف الإنعاش .
المنقبة الرابعة ، هي انفتاح محمد الصباغ المبكر على ثقافة الشرق والغرب معا ، ومدّهُ جسور التواصل والتفاعل مع الأدباء المهجريين في الرابطة القلمية والعصبة الأندلسية من جهة ، والأدباء الإسبان من جهة ثانية . وكانت له في هذا الصدد علاقات وصداقات مع كبار الأدباء المهجريين وكبار الأدباء والشعراء الإسبان .
وقد ساهم بذلك مساهمة عصامية جليلة في التعريف بالمغرب الثقافي وإيصال صوته الأدبي إلى المَحافل الدولية . كلّ ذلك في فترة مبكرة ناشئة كان فيها الأدب المغربي الحديث يَفْرك عيونه للنور .
المنقبة الخامسة ، تتجلّى في أناقة السّمت التي يتميّز بها الصباغ كاديب حداثي – جُنتلمان. أناقة تسِم إبداعه ومسلكه ومظهره ومخبره .
إنه كاتب لا يختلف فيه الإنسان عن الفنان .
لستُ هنا أيضا ، بصدد تَعداد مناقب وخِلال الأديب الكبير محمد الصباغ . فهي مناقب وخلال كُثر يضيق عنها المقال والمقام ، وإنْ هي إلا كلمة – شهادة أبثّه عبرها بعضَ شعوري ونجْواي ، كقاريء قديم للصباغ معجب بإبداعه مُرتوٍ من زلاله ومُواكب لمواسمه وعناقيد نداه .
فتحية إكبار وامتنان وعرفان لروح أديبنا الكبير محمد الصباغ في عليّين ، حاضرا في غيابه .
وتحية تقدير لرفيقة حياته وقسيمة رحلته وأم كريماته . ووراء كل عظيم حقا ، امرأة خارج التغطية .
(عن صفحة الكاتب نجيب العوفي)