الرئيسية / أخر المستجدات / ما وراء “قانون القومية اليهودية”

ما وراء “قانون القومية اليهودية”

د عبد الإله بلقزيز /

قانون «الدولة القوميّة» لِ «الشعب اليهوديّ» -الذي أقرَّتْهُ ال«كنيست» في 19 يوليو/‏تموز 2018 هو التطبيق العمليّ الكامل لوعد بلفور بِمنح «وطن قوميّ» لليهود في فلسطين. ما لم يُتِحْهُ قرار التقسيم، في العام 1947؛ وما لم يَقْوَ عليه إعلان دولة «إسرائيل»، في العام 1948، وَفَّرَه – اليوم- قانون «الدولة القوميّة» اليهوديّة. عند قيام الدويلة، عقب قرار التقسيم، لم يكن يَسَع «إسرائيل» أن تتجاهل أنها قامت على أرضٍ يوجد عليها سكّانها الأصليون (العربُ الفلسطينيون) ممّن ينتمون إلى قوميّة مختلفة، ويتحدّثون بلسانٍ قوميّ مختلف (اللغة العربية)؛ وأنّ الفلسطينيين – أهل الأرض – يَدينون بعقيدتيْن مختلفتين عن الموسويّة: الإسلام والمسيحيّة؛ و-بالتالي-ما كان يَسَعُها أن تَمْحُوَ، بجرّةِ قلم، هذه الحقائق الأنثروپو- ثقافية، فتفرض العَبْرَنة والتهويد على مَن يخالفونها اللغةَ والانتماءَ والاعتقاد الدينيّ، وإلاّ كانت غامرت بوضْع نفسها خارج القانون الدوليّ وفي مواجهة العالم كلِّه، وسدّدت ضربةً مبكِّرةً للأزعومة التي صنعتْها عن نفسها بوصفها دولة «ديمقراطيّة» في المنطقة.

إذا كان مشروع بناء الدويلة «إسرائيل» وقد بدأ العمل عليه منذ «المؤتمر اليهوديّ» بزعامة هرتزل، في نهاية القرن التاسع عشر، وأخذ اندفاعته منذ «وعد بلفور» وقيام الانتداب البريطاني على فلسطين – قد دشَّن بداياته بالاستيطان اليهوديّ الكثيف لفلسطين، مستفيدًا من التواطؤ البريطاني في تسهيل هجرة اليهود إليها؛ وإذا كان معظم ذلك الاستيطان ومؤسّساته من كيبوتزات وتجمّعات قد حصل في المناطق التي تُسَمّى، تَوْراتيًّا، «أرض إسرائيل» (أي في المثلث والجليل) ثم في صحراء النقب، بينما لم تكنِ القدس ولا الضفة الغربيّة (أرض «اليهودية»، كما كان يسمّيها المؤرّخون الإغريق والرومان، أو «يهوذا والسامرة» كما تسمّيها التوراة) – أي المناطق ذات الرمزيّة الدينيّة المقدَّسة في المخيال اليهوديّ – في جملة المناطق التي توجَّه إليها فِعْلُ الاستيطان اليهوديّ، فإنّ من غيرِ المعلوم لدينا، على وجه التحقيق، إن كان الحامِلُ عليه عدمَ تشبُّع النخب اليهوديّة الأولى – من هرتزل إلى بن غوريون مروراً بحاييم وايزمان – بثقافةٍ دينيّة (وربما بعدم اعتقادها بالدين أصلاً حيث رَبِيَ أكثرُها في بيئات أوروبيّة علمانيّة) وبالتالي، كان ذلك في أساس إيلاء الأولويّة لِ «أرض إسرائيل» (شمال فلسطين وغربها ووسطها)، لأسباب اقتصادية واستراتيجيّة، على «يهوذا والسامرة» التي لا تتمتّع إلاّ بقيمةٍ رمزيّة دينيّة.

تَدَارك المشروع الإحلاليّ اليهوديّ ذلك العائق، في حرب العام 1967، باحتلاله القدس والضفّة والقطاع، وتكثيف الاستيطان فيها (وفي القدس خاصّة). ولقد حدث تغيُّر دراماتيكيّ في الدولة العبريّة، على الصعيدَين الديمغرافيّ والثقافيّ، في الخمسين عاماً الأخيرة (بعد حرب 67)؛ إذ تزايَدَ جمهور المتديّنين والمتطرّفين في امتداد الاختلال في ميزان القوّة، العدديّ والثقافيّ، بين الإشكناز (الغربيّين) والسفارديم (الشرقيّين).

ما الذي يعنيه إقرار قانون «الدولة القوميّة» اليهوديّة؛ وما الذي سيتولّد من تنزيل أحكامه؟

يعني، ابتداءً، فرضُ العبريّة لغةً رسميّةً وحيدة في «إسرائيل» وإلغاء رسميّة اللغة العربيّة التي يتحدّثها عشرون بالمئة من «مواطني» الدولة المغتصِبة! أي، أيضاً تجفيف آخر ينابيع الهويّة العربيّة الفلسطينيّة!

ويعني ثانياً، تجريد غير اليهود من مشروعيّة الوجود وشرعيّتِه داخل كيانٍ يهوديّ. وترجمةُ ذلك أنّ خُمُسَ السكان، من الفلسطينيين العرب، مهدَّد في بقائه في أرضه. وهذا ما سعت فيه الدولة العبريّة منذ شرع قادتُها في الحديث عن «تبادُلِ أراضٍ» في المفاوضات مع السلطة الفلسطينيّة!

ويعني، ثالثًا، دفن مطلب الحقّ في العودة؛ إذ لا عودة تكون ممكنةً لغير اليهود إلى «دولة اليهود» و، بالتالي، سيكون على دول الجوار العربيّ لفلسطين (لبنان، الأردن، سوريا) توطين ملايين الفلسطينيّين اللاجئين في أراضيها، مع ما يثيره ذلك من مشكلات تتعلق بالتوازنات السياسيّة القلقة في تلك البلدان (لبنان والأردن خاصّةً). ويعني رابعاً، التشريع الرسميّ السافر للتمييز العنصريّ: شبيهٍ في الطبيعةِ، أو يفوق، ما كان في روديسيا وجنوب أفريقيا قبل انهيار نظام الأبارتهايد!

ويعني، خامساً، انهيارَ كلِّ أملٍ أو رهان على مفاعيل قانون الاحتلال في التوازن الديمغرافيّ في فلسطين المحتلّة، مع الزمن، لصالح السكان الأصليّين: أهل الأرض والديار. ويعني، سادسًا، أنّ التسليم بأحكام قانون «الدولة القوميّة» اليهوديّة تسليمٌ ب«حقّ» «إسرائيل» في ضمّ القدس والضفّة الغربيّة؛ لأنّ هذه – لمن لا يعرف – هي «الدولة اليهوديّة» في التراث العبرانيّ الذي ميَّز – دائمًا كما نقرأ في أسفار «العهد القديم» – بين «مملكة إسرائيل»، التي لم تُعَرَّف بأنها يهوديّة في التوراة، و«مملكة يهوذا». وعلى الذين لا يعرفون أن لا يستسهلوا إضافة ماهية اليهودية إلى الدولة المغتصِبة، فيحسبوا الأمر وكأنّ التسمية نعتٌ لمنعوت!

وبعد؛ لن يكون على الفلسطينيين وحدهم، ولا على العرب والمسلمين والفاتيكان معهم، أن ينوبوا عن العالم جميعِه في ردّ هذه الجريمة النكراء المرتكَبَة في حقّ البشريّة جمعاء: القانون الدوليّ، قيم العصر، الأعراف الإنسانيّة. لا بدّ من ائتلاف جبهة عالميّة موسَّعة لمواجهة هذه الطبعة الأخيرة من العنصريّة البربريّة؛ شبيهة بالتي قامت ضدّ نظام الأبارتهايد

اترك تعليقاً