الرئيسية / أخر المستجدات / وباء الخديعة في عصر الإعلام العولمي

وباء الخديعة في عصر الإعلام العولمي

د محمد علي فخرو/

لو كنتُ مدرس إعلام في إحدى كليات الإعلام العربية لأحلتُ طلابي إلى مشاهدة ومتابعة الساحة الإعلامية للحرب الأوكرانية، فهي بحق كتاب يُقرأ ومسلسل يستحق المتابعة. وبدون مبالغة سيجد الطالب كل ما يجب أن يعرفه عن مكونات وخفايا وأساطير وتلاعبات التعامل الإعلامي لكل حدث كبير في عالمنا المعاصر المجنون.

سيكتشف طلابنا كيف تستطيع بهلوانية وانتهازية بعض مصادر الإعلام أن تقلب صورة ممثل كوميدي بسيط في دولة صغيرة مغمورة تتلاعب بها كل أنواع القوى الاستخباراتية- أن تقلب صورته إلى شخصية بطل وطني وعالمي شجاع يتسابق العالم المرحب به ليلقي المحاضرات، ويغير سياسات الدول، ويقنع برلمانات الأغنياء بصرف مئات المليارات بسخاء حتى لو كان على حساب فقرائهم ومعوزيهم. وما إن ينطق بكلمة أو يجري اتصالاً تليفونياً أو يكتب جملة على وسيلة اتصال إلكترونية حتى يتحدث عن ذلك القاصي والداني من ذلك الإعلام، ويردد العالم أصداء ما قيل وما كتب.

سيكتشف طلابنا كيف أن سبب الحرب الأوكرانية، المملوء بألف سؤال وتلاعب وعبث مصطنع، قد أصبح نسياً منسياً، وما عاد الحديث إلا عن أحداث فرعية يومية، وعن المتهم المجرم الذي تسبّب في ذلك. كل الخلفية لهذه الحرب وأخطائها دفنت، وكل الأنوار حول مسبباتها أطفئت، ولكن كل التسابق المجنون لتوسعتها وإشعال كل النيران من حولها ودفعها بهلوسة وخرف لتصبح حرباً عالمية ثالثة تزفها أمريكا وأوروبا إلى العالم.. كل ذلك أزيل من ذاكرة الشعوب المنشغلة بألف تفاهة، وليصبح كل قرار مجنون يأخذه الساسة المتطرفون صائباً وضرورياً وإنقاذاً للمدنية والحضارة.

وسيكتشف كيف استطاع ذلك الإعلام تقزيم كل صوت سياسي معتدل مخالف لقيام الحرب عبر أوروبا كلها.

فجأة خفتت في وسائل هذا الإعلام أصوات المجتمعات المدنية، وارتفعت أصوات العساكر والمخابرات والساسة الشعبويين.

والواقع أن موضوع الإثارة المتعمدة وممارسة الخديعة في عرض الأخبار من قبل الكثير من وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة، تارة لأسباب إعلانية تجارية، وتارة بسبب ضغوطات هائلة من قبل شتى القوى المهيمنة على السياسة أو الأمن أو الاقتصاد، أصبح موضوعاً مطروحاً بقوة في الغرب.

ولمن يريد أن يعرف مرجعاً عن تفاصيل ما يدور في ذلك الحقل من تلاعبات متعمدة أحيله إلى كتاب نشره، كاعترافات شخصية، أحد الذين عملوا في حقل الإعلام الغربي المكتوب والمسموع، ومارس أثناء فترة عمله شتى صور التلاعب لجعل متابعيه يتقبلون الأخبار الممزوجة بشتى الأكاذيب والإضافات المتعمدة. المؤلف هو رايان هوليدي، والكتاب تحت عنوان: «ثقوا بي، أنا أكذب: اعترافات متلاعب بالإعلام».

لنذكر بعضاً مما يريد قوله المؤلف:

في الولايات المتحدة الأمريكية يعتمد مئة في المئة من الصحفيين على ما هو موجود في وسائل الإنترنت كمصادر للأخبار التي ينشرونها، ويصل الأمر ببعضهم أن يتلاعبوا ويحوّروا ما هو مكتوب في ويكيبيديا.

التلاعب بالإعلام يتمثل بإدخال ملايين الأكاذيب الصغيرة التي يصعب كشفها. وهي عملية يومية.

اكتشفت أن الرأي العام عندنا يتلذذ بطعم المثير والمخادع في الإعلام، وأن بعضاً من المنكرات التي تقوم بها حكوماتنا يتعامل إعلامنا معها بالصمت التام.

يتعمّد بعض ساستنا أن يصرّحوا في الصباح وينفوا في المساء، حتى ينتشر ما يريدون تمريره في كل مكان، تماماً مثلما فعل نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني لتمرير كذبة الحكومة الأمريكية الكبرى بشأن امتلاك العراق للأسلحة الذرية.

كثير من القرارات الحكومية المهمة هي نتيجة لتصديق ما يقوله الإعلام عندنا من أكاذيب.

لقد اكتشفنا أن ذاكرة الشعوب لا تمتد إلى أكثر من أسبوعين، وهكذا تتعامل الشعوب مع الكذب الإعلامي ومع مصادر التلاعب به؛ إذ تنسى الأمر بعد أسبوعين.

الواقع أن أكبر المتلاعبين بالإعلام هم المتواجدون في داخل المؤسسات الإعلامية.

ما زال الوقت مبكراً لمعرفة إن كانت وسائل الاتصال الاجتماعية الشعبية ستستطيع أن تقاوم أو تصحح ما يرد في بعض مؤسسات وسائلنا الإعلامية من أخطاء وأكاذيب، ذلك أنها هي الأخرى فيها ألف علة وعلة.

ما يهمنا هو أن يعرف شباب وشابات أمتنا العربية كيف يتعاملون مع جميع أنواع ومصادر الإعلام، رسمية ومجتمعية، بحذر شديد وبتأنٍّ عقلاني. ذلك أن الكذب والتلاعب الإعلامي قد أصبحا مرض العصر بلا منازع.