الرئيسية / أخر المستجدات / كورونا وفرص “أنسنة” العلاقات الدولية

كورونا وفرص “أنسنة” العلاقات الدولية

د محمد السعيد إدريس/

يوماً بعد يوم تتفاقم تداعيات ومخاطر ونتائج إنتشار فيروس “كورونا” القاتل، ويوماً بعد يوم يجد العالم نفسه أمام حالة إستنفار غير مسبوقة لمواجهة مخاطر هذا الوباء والقضاء عليه. ويمكننا أن نلحظ سباقاً مع الزمن يخوضه العلماء الكبار والمؤسسات البحثية الطبية فى العديد من الدول المتقدمة فى هذا المجال، على وجه الخصوص لإنتاج لقاح قادر على القضاء نهائياً على هذا الفيروس القاتل. وبين كل هذه الجهود المتنوعة يفرض سؤال مهم نفسه هو:

كيف ستؤثر هذه الجهود وهذا الشعور الجماعى بالخطر على العلاقات بين الدول والشعوب، وقبلها على العلاقات داخل الدول. هل يطمح العالم أن يخرج من هذه الكارثة الإنسانية بقدر أعلى من التضامن الجماعى واستعادة القيم الإنسانية لتحكم العلاقات بين الدول، أى هل نأمل بالمزيد من “أنسنة العلاقات الدولية” أى جعلها أكثر إنسانية؟ وأن تعود القيم الإنسانية الراقية خاصة التضامن المشترك فى مواجهة خطر وباء هذا الفيروس القاتل لتعيد ضبط انفلات سياسات الحكم فى كثير من الدول بالاتجاه نحو المزيد من “أنسنة الحكم” والمزيد من الثقة المتبادلة بين الحاكمين والمحكومين؟

السؤال مهم لأن العقود الأخيرة شهدت درجات عالية من تدنى القيم الإنسانية والأخلاقية كمكون أساسى للعلاقات الدولية لصالح “قاعدة المصلحة” التى جعلت الأقوياء يكتسحون الضعفاء من أمام طريقهم وهم يصارعون من أجل التفوق والتقدم حتى وإن على حساب حقوق ومصالح الآخرين. لكن الأهم من ذلك أن شيوع “مناخ المؤامرة” الآن خاصة بين الصين والولايات المتحدة واتهام كل منهما للأخرى بأنها المتسبب فى “تخليق” ونشر هذا الفيروس ضمن صراعهما الكونى لفرض نفسيهما القوة العالمية الكبرى المسيطرة، بدعم الاحتمال السلبى وفرض المسار الآخر، أى يهدر كل ما يمكن استخلاصه من العبر والدروس التى يأتى فى مقدمتها أنه بالتضامن العالمى المشترك وبالتعاون والثقة المتبادلة بين الحكومات وشعوبها يمكن القضاء على الخطر والتغلب عليه.

المراهنة على أن تؤدى الأزمة الراهنة إلى إحداث المزيد من “أنسنة” العلاقات الدولية وفرض قيم التعاون والاعتماد المتبادل بدلاً من الصراع لن تتحقق كمجرد رغبة أو طموح، لكنه سيكون شئنا أم أبينا محكوماً، وبدرجة كبيرة بما ستؤول إليه “معركة الاتهام بالتآمر” بين كل من بكين وواشنطن، وحسم حديث المؤامرة. فلو ثبت بالدليل القاطع أن هناك من دبر ونشر هذا الخطر فإن العالم سيكون أمام مرحلة شديدة الغموض من إعادة صياغة منظومة تقييم مكانة قوى كبرى كانت ومازالت مسيطرة على هذا النظام.

مناخ المؤامرة يفرض نفسه بقوة هذه الأيام فى ظل الاتهامات الأمريكية – الصينية المتبادلة بالمسؤولية عن نشر الفيروس. والرواية الرائجة حتى الآن فى الاتهامات الصينية للولايات المتحدة هى استغلال الولايات المتحدة دورة الألعاب العسكرية العالمية التى استضافتها مدينة “ووهان” الصينية فى أكتوبر/ تشرين الأول 2019، حيث قام ضابط ضمن الوفد الأمريكى المشارك فى هذه الدورة، وفقاً للرواية الصينية بنشر هذا الفيروس بدليل أن أول حالات اكتشاف الفيروس كانت فى مدينة “ووهان” وبعد أسبوعين فقط من إنتهاء تلك الدورة أى يوم 17 نوفمبر/ تشرين الثانى 2019. ويدعم أصحاب هذه الرواية اتهاماتهم بالرجوع إلى تأكيدات منسوبة إلى العالم الصينى “تشونغ نان شان” الرئيس السابق للهيئة الطبية فى الصين ومكتشف فيروس “سارس” عام 2003 قال فيها أن “فيروس كورونا جرى رصده فى الصين بالفعل، ولكن لا توجد أدلة على أنه صينى المصدر”، وهو بهذا التأكيد يدعم مصداقية الاتهامات الصينية بأن الفيروس جاء من الخارج ومن طرف له مصلحة مؤكدة فى تدمير الاقتصاد ومشروع التقدم الصينى المتسارع نحو الزعامة العالمية، أو على الأقل عرقلته، ولعل هذا ما يشكل خلفية اتهامات المتحدث باسم الخارجية الصينية (12/3/2020) “تشاو لى جيان” الجيش الأمريكى باحتمال إدخال فيروس كورونا إلى مدينة “ووهان” المتحدث باسم الخارجية الصينية وجه أسئلة محرجة للأمريكيين استهدف فيها تأكيد صدقية الرواية الصينية عن “المؤامرة الأمريكية” من نوع: متى ظهر هذا المرض فى الولايات المتحدة؟ وكم عدد الناس الذين أصيبوا؟ وما هى أسماء المستشفيات التى يتعالج فيها المصابون؟، وخاطب الأمريكيين قائلاً: “تحلوا بالشفافية، وأعلنوا بياناتكم.. أمريكا مدينة لنا بتفسير” ولمزيد من جدية هذه الاتهامات تعمد هذا المسؤول الصينى أن يقتبس ما جاء على لسان العالم الأمريكى “روبر ريد فيلر” مدير قسم مكافحة الأوبئة والأمراض فى الولايات المتحدة أمام الكونجرس “بالعثور على فيروس كورونا فى جسم أمريكيين توفوا به فى الماضى”، ما يعنى أن الفيروس كان موجوداً بالولايات المتحدة فى وقت سابق قبل أن ينتقل إلى الصين، وهذا المسؤول الصينى عاد مجدداً ليكرر اتهاماته للأمريكيين بوجود إثباتات تؤكد أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية هى التى نشرت فيروس كورونا فى الصين، وبوجود أدلة تؤكد أن هذا الفيروس تم “تخليقه” من جانب علماء أمريكيين عام 2015.

الولايات المتحدة ترفض بشدة هذه الاتهامات على نحو ما جاء على لسان وزير الخارجية الأمريكى مايك بومبيو الذى حذر الصين الاثنين الماضى من نشر معلومات مضللة حول فيروس كورونا المستحدث. بومبيو وجه هذا التحذير فى اتصال هاتفى مع مسؤول السياسة الخارجية فى الحزب الشيوعى الصينى “يانغ جيشي” قال فيه أن “الوقت ليس مناسباً لنشر معلومات مضللة وشائعات غريبة، وإنما لأن توحد الأمم جهودها من أجل مكافحة هذا التهديد المشترك”.

خطاب المؤامرة المتبادل بين الصين والولايات المتحدة ليس وحده الذى يهدد فرص الخروج بدروس إيجابية من المحنة الراهنة أو ليس هو وحده ما سيحكم مآلات منظومة العلاقات الدولية فى مرحلة ما بعد كورونا ولكن أيضاً مجمل سلوكيات الدول والحكومات خاصة وأن هناك من السلوكيات ما يمكن أن يرسخ من العداء بين الأمم وهناك ما يدعم فرص ترسيخ مناخات التعاون والاعتماد المتبادل. فالمبلغ الخيالى الذى عرضه الرئيس الأمريكى دونالد ترامب على شركة “كيور فاك” الألمانية التى توشك على إنتاج “مصل” ودواء لعلاج ضحايا الفيروس بالانتقال إلى الولايات المتحدة وجعل نتائج اختباراتها المعملية وإنجازها العلمى “حصرياً” للولايات المتحدة، الأمر استنفر وزراء الحكومة الألمانية لرفض هذا المنطق الإستحوازى والإحتكارى والتأكيد على أن “ألمانيا ليست للبيع” على نحو ما جاء على لسان وزير الاقتصاد بيتر التماير .

وعلى العكس من هذا السلوك الاحتكارى الأمريكى تبادر الصين بتقديم دعمها للدول المتضررة بعد أن نجحت بدرجة متفوقة فى احتواء الوباء وخاصة لإيران وإيطاليا الأكثر تضرراً، كما تأتى المبادرة الإماراتية ومن بعدها المبادرة الكويت ية بالتواصل مع إيران وتقديم المساعدة اللازمة للقضاء على الوباء والتقليل من أضراره، وخاصة الاتصال الهاتفى لسمو الشيخ عبد الله بن زايد وزير خارجية الإمارات بنظيره الإيرانى لتؤكد أن العالم بمقدوره أن يرسى منظومة قيم وسلوكيات من شأنها “أنسنة” العلاقات بين الدول والشعوب ونبذ كل ما يتهدد طموحات التعاون المشترك.