الرئيسية / أخر المستجدات / تداعيات حرب أوكرانيا على الدول العربية

تداعيات حرب أوكرانيا على الدول العربية

رضى موسوي*/

لا يخفى على المتابعين سعيُ الولاياتِ المتّحدةِ الأمريكيّةِ إلى توريطِ روسيا في أوكرانيا، وإغراقِها في كلفٍ ماليّةٍ وسياسيّةٍ وعسكريّةٍ كبيرة؛ بسبب اجتياحِ الجيشِ الروسيّ الأراضي الأوكرانيّة على خلفيّة عزم أوكرانيا الانضمام لحلف شمال الأطلسيّ “الناتو”؛ ما أشعلَ حربًا نهايةَ شهر فبراير/شباط الماضي، ووقفَ العالمُ على رجلٍ ونصف؛ خوفًا من خطأٍ ما يحدثُ هنا أو حماقةٍ تحدثُ هناك، فتتطوّر الحرب المحدودة – حتّى كتابة هذه السطور – إلى ما لا يحمد عقباه من تصعيدٍ بين القوى الكبرى، ويدخل العالم في المجهول. وخلالَ أسابيع الحرب العسكريّة، أو ما تسمّيه موسكو “العمليّة العسكريّة”، غصّت وسائلُ الإعلام العالميّة بالكثير من التحليلات والأخبار والمعلومات التي أغلبها موجهةٌ وتفتقدُ الكثير من المصداقيّة، وتترجم وتعكس بشكلٍ صارخٍ حربًا إعلاميّةً شرسةً؛ يراد منها أن تكون موازيةً للحرب العسكريّة على الجبهات، بل أشدُّ وطأةً منها.

وكنتاجٍ طبيعيٍّ لحربِ أحد أطرافها الولايات المتّحدة الأمريكيّة والدول الغربيّة، فقد استخدم سلاح العقوبات الاقتصاديّة بشراسةٍ دون هوادةٍ ضدّ روسيا، ليس لمحاصرة موسكو فحسب، بل أيضًا لتخويف كلّ من يحاول الخروج عن الطوق الأمريكيّ، واتّخاذ مواقفَ بعيدةٍ عمّا تقرّره دوائرُ البنتاغون والبيت الأبيض. لقد فعلت العقوباتُ فعلتها، وتمكّنت واشنطن، ومن ورائها العواصمُ الأوروبيّة، من تجييش أغلب دول العالم ضدّ روسيا؛ ما عقّد المشهد أكثر، وبدأت الحرب، التي كان يفترض أن تكون محدودة؛ تتّسع تبعاتُها الاقتصاديّةُ وتتمدّد لتصلَ إلى المنطقة العربيّة. إنّ الحربَ طالت مفاصلَ الاقتصاد العالمي، وأثّرت على دول العالم الثالث التي تستورد الطاقة والحبوب بصورةٍ أكبر. أمّا بالنسبة إلى روسيا فقد كانت توقّعات الحكومة أن ينمو الاقتصاد بنسبة 2.8 بالمئة في العام الجاري، بعد أن سجّل نموًّا في العام الماضي بلغ 4.7 بالمئة، وهو أكبرُ نموٍّ منذ عام 2008؛ الأمرُ الذي وضع آمالًا كبيرةً لتحقيق نموٍّ مماثلٍ في العام الجاري 2022، إلا أنّ الحربَ والعقوبات وضعت الاقتصاد الروسيّ في زاويةٍ حرجة، خصوصًا مع زيادة الضغط لفرض عقوباتٍ على قطاع الطاقة، ما قاد إلى ارتفاع أسعارها على المستوى العالمي، وبدأت دولٌ بحجم الهند إعلانَ التمرّد على الضغوطات الغربيّة التي تطالبها بوقف استيراد الطاقة من روسيا، رغم أنّ نسبةَ الاستيراد هذهِ لا تشكّلُ نسبةً يعتدُّ بها، في حين اعتماد الدول الأوربيّة عليها بنسبةٍ تصل إلى 40 بالمئة.

وروسيا التي تخوض الحرب، هي بلدٌ قارّيٌّ، وتعدُّ أكبرَ دولةٍ في العالم من حيث المساحة، وتبلغ 17 مليون كم، وعدد سكّانها يقترب من 145 مليون نسمة، وعليها دينٌ حكوميٌّ يبلغ نحو 490 مليار دولار، يضاف إلى دين القطاع الخاص البالغ 300 مليار دولار، وناتجٌ محلّيٌّ إجماليٌّ يقترب من 1.7 تريليون دولار، تسبقها إيطاليا بأكثرَ من 2 تريليون دولار، وتلحقها إسبانيا بنحو 1.4 تريليون دولار. وبالمقارنة مع الاقتصاد الأوكراني يشكّل الأخير ثُمن الاقتصاد الروسي، حيث يصل الناتجُ المحلّي الإجماليّ الأوكراني 200 مليار دولار، ويشكّل قطاع النفط والغاز 16 بالمئة من الناتج المحلّي الإجماليّ و52 بالمئة من عائدات الميزانيّة و70 بالمئة من الصادرات. وتعدّ روسيا أكبرَ مُصدّرٍ للغاز الطبيعي، وتتمتّع بأكبر احتياطي عالمي منه، في حين تتبوّأ المرتبةَ الثانيةَ في تصدير النفط، حيث تنتجُ 11 مليون برميل يوميًّا، وتصدّر 4.7 مليون برميل يوميًّا أيضًا، كما تصدّر نحو 20 بالمئة من الحبوب العالمي، وتنتج 123 مليون طن من الحبوب، وتبلغ صادراتها من الحبوب أكثر من 30 مليار دولار سنويًّا، كما تنتج نحو 100 مليون طن من الحديد سنويًّا، مُسجِّلةً المرتبةَ الخامسة عالميًّا، و5 بالمئة من الإنتاج العالمي من الفحم.

لكن، كيف تأثرت الدول العربيّة بشظايا الحرب؟

أولى الشظايا التي مسّت الدول العربيّة المستوردة للنفط، كان في قطاعي النفط والغاز. فقد كسر سعر برميل النفط حاجزَ المائة دولار ارتفاعًا لأوّل مرّة منذ سبع سنوات، ما انعكس سلبًا على الدول المستوردة للنفط، بينما نعمت الدول المصدّرة بإيراداتٍ فلكيّةٍ هطلت مع مدافع الحرب، حيث من المتوقّع أن تسجّل كلّ الموازنات الخليجيّة، فائضًا ملحوظًا، يسهم في إعادة التوازن المالي لدى أغلب دول مجلس التعاون الخليجي. لكن هذا الارتفاع في أسعار النفط قاد إلى زيادة نسبة التضخّم في أغلب البلدان العربيّة، فارتفعت أسعار المواد الأساسيّة خصوصًا، خاصّةً أن أغلبها يأتي من روسيا وأوكرانيا كما هو الحال مع القمح وزيت عبّاد الشمس والقمح. ووفق المؤشّرات ارتفع سعر طن القمح في السوق المصري بنحو 1000 جنيه مصري ليصلَ سعرُهُ إلى نحو 6500 جنيه، وارتفع طن المعكرونة من 8 آلاف جنيه قبل الحرب إلى 10 آلاف جنيه بعد اشتعالها؛ الأمرُ الذي أدّى إلى منع تصدير العديد من المواد الغذائيّة الرئيسيّة مدّةَ ثلاثة أشهر، في محاولةٍ للجمِ التضخّم في الأسعار.

نشيرُ هنا إلى أنّ الدول العربيّة تستوردُ نحو 60 بالمئة من احتياجاتها للحبوب من روسيا وأوكرانيا، وجزئيًّا من فرنسا ورومانيا، إلا أنّ لروسيا وأوكرانيا أفضليّةً؛ نظرًا لرخص حبوبهما، وهو ما يفسّر الإرباك الذي واجهته الموازناتُ العربيّةُ المستوردةُ للنفط والحبوب، حيث زاد العجز في الميزان التجاري المصري عن المستوى الذي بلغه في العام 2021، وبلغ 18.4 مليار دولار، وسيتراجع دخل السياحة التي تشكّل مصدرًا مهمًّا للعملة الصعبة؛ الأمرُ الذي سيزيد من عجز الموازنة العامة التي بنيت على أساس سعر البرميل 61 دولار. وإذا كان هذا هو الوضع في أكبر دولةٍ عربيّة، فما بالك ببقيّة الدول العربيّة التي تعيش على المساعدات وقروض صندوق النقد الدولي؟!

إنّ دولةً مثل تونس خرجت قبل عشر سنواتٍ من جحيم الاستبداد إلى رحاب الحريّة والديمقراطيّة والاعتراف بحقوق الإنسان، لكنّها لم تتمكّن من صياغة نظامها السياسي الجديد، حيث تمكّن الحرس القديم من العودة نسبيًّا، وتمَّ تعطيلُ عمليّة التحوّل الديمقراطيّ المطلوبة للنقلة النوعيّة نحو الدولة المدنيّة الديمقراطيّة. تونس تواجه وضعًا اقتصاديًّا وماليًّا يزدادُ صعوبةً مع نشوب الحرب في أوكرانيا، حيث ازداد العجز بسبب ارتفاع أسعار الحبوب والنفط والغاز من 20 مليار دينار تونسي إلى 27 مليار دينار، والرقم يُرجّح له أن يزداد. أمّا في لبنان الذي يتعرّض لانهيار النظام العام، فإنّ احتياطي الحبوب والقمح المتراجع منذ انفجار المرفأ، فقد تحوّل إلى كارثةٍ حقيقيّة، إذ يستورد لبنان 80 بالمئة من حاجته من القمح من أوكرانيا، و15 بالمئة من روسيا و5 بالمئة من باقي أنحاء العالم، وتبلغ حاجة لبنان الشهريّة من القمح ما يقرب من 50 ألف طن، وقد استورد في العام 2020 أكثر من 630 ألف طن من أوكرانيا. إنّ ارتفاع المحروقات والمواد الغذائيّة الرئيسيّة سوف يقود إلى المجهول، خصوصًا أنّ احتياطي القمح قد تراجع إلى مدّة شهر فقط. أمّا السودان فحدّث ولا حرج، والوضع يزداد سوءًا مع استمرار الأزمة التي أضافت إلى أزمة السودان أزمةً جديدة، وقد بلغت إمدادات القمح للسودان ذروته، خصوصًا إذا علمنا أنّ السودان يستورد نحو 95 بالمئة من مخزونه من دول البحر الأسود وروسيا، ويتجاوز استهلاكه من القمح مليوني طن سنويًّا، فيما يتراوح إنتاج البلاد بين 12 إلى 17 بالمئة من احتياجاته، هذا هو حال السودان الذي كان يفترض أن تكونَ سلّةَ غذاءِ الوطن العربيّ.

نشيرُ هنا إلى أنّ روسيا وأوكرانيا تستحوذان بنسبة 30 في المئة من صادرات القمح العالميّة، وعلى أكثر من 25 بالمئة من صادرات الأسمدة ونحو 15 في المئة من صادرات الذرة، ومنذ بدء الأزمة تضاعفت أسعار القمح تقريبًا، وارتفعت أسعار الأسمدة بأكثرَ من 75 بالمئة، وقفزت أسعار الذرة بأكثرَ من 40 في المئة، ما أفرغ خزائن الدول العربيّة المستهلكة للنفط والمستوردة للحبوب.

تكلفةٌ باهضةٌ:

تؤكّدُ المعطيات التي أشرنا إليها أعلاه، بأنّ أغلب الدول العربيّة تأثّرت سلبًا بالأزمة، وخصوصًا في أبعادها الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وأنّ السبب يعود إلى استمراء الاعتماد على الخارج وعشعشة الفساد الماليّ والإداريّ وعدم إشراك المواطن في صناعة القرار السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعي؛ الأمرُ الذي قاد إلى تفرّد النخب الحاكمة بمصائر الشعوب العربيّة، وإغراقها في أوهام التنمية، وأغرقت بلدانها بها حتى جاءت الأزمة الأخيرة، لتكشف ما تبقى من مستور، وتؤكّد على أنّ الدول العربيّة في خطّها العام غيرُ قادرةٍ على الفعل والتأثير في المجتمع الدولي، إنّما هي متغيّرٌ تابعٌ على مستوى العالم، وتقاد من مراكز القرار الدوليّة، وخصوصًا في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، ما يضع هذه الدول أمام استحقاقاتٍ كبرى، وعليها دفعُ فواتير سياساتها خلال العقود الماضية، التي ضُيّعت فيها التنمية الإنسانيّة الحقيقيّة، وابتعدت عن التنسيق والتكامل بين بلدان الوطن العربي الكبير، لتدفعَ اليوم ثمنَ رغيف الخبز مضاعفًا كونها تستوردُهُ من وراء البحار.  

* صحفي وكاتب الامين العام السابق لجمعية وعد  البحرين