الرئيسية / أخر المستجدات / إلى”الدارجيّين” الذين أدرَجُوا التعليمَ فى مُستوىً من الضّحَالةِ والإسفاف

إلى”الدارجيّين” الذين أدرَجُوا التعليمَ فى مُستوىً من الضّحَالةِ والإسفاف

محمد محمد الخطابي

هذه الخطوة المتعثرة التي خطاها أو خبطها خبط عشواء القائمون على التعليم فى المغرب لإدراج ضمن مناهجه التربوية والتدريسية العامية أو الدارجة المغربية  خطوة رعناء لن يُحمَد عقباها على المدىَ القريب جدّاً ،فردود الفعل من مختلف الجهات لم تتوان ولم تتأخر فى التصدّي بقوّة لوأد هذا الإجراء الذي لا يمتّ إلى ثقافة وفكر وتاريخ المغرببصلة ،هؤلاء”المُربّون” الذين نزلوا بفعلتهم هذه على كلّ غيور فى هذا البلد وعلى هويّته، وتاريخهنومستقبل أبنائه نزول الصّاعقة ،وكأنما الناس كانوا نوّاماً  فدار بخلدهم هذا الحلم المُرعب المُزعج الذي لم يكن فى حسبان أيّ مثقف كريم ، حرّ،  نزيه  يريد الخيرَ لهذا البلد ولأهله وذويه،إنهم  بهذا القرار التعليمي المُجحف كأنما هم عادوا بنا الزمانَ القهقرى، وجعلوا منّا ومن بلدهم أضحوكة حيث لم يتأخر كلُّ مَنْ عَلِم بهذا الخبر الأرعن إلاّ وانخرط فى سخرية مرّة ، وتهكم وازدراء مُضحكيْن .

خلال النقاش،والحوار، والجدال الذي داررحاه عندما انطلقت هذه الدعوة الجوفاء لإدراج تدريس الدراجة أو العامية ضمن مناهج التربية والتعليم  فى المغرب والتي كانت قد جاءت من جهات مشبوهة مشكوك فى نيتها، وهويّتها، ومسعاها، وكذا فى مستواها الثقافي ، عندما أنطلقت هذه الدعوة تصدّينا لها فى حينها، وكان فى اعتقادنا أننا أسكتنا هذه الأبواق المُحَشْرَجَة التي تروم الخروج عن المألوف والمعروف، وقلنا إبّانئذٍ أنّ الدعوة إلى تبسيط اللغة ونحوها وقواعدها لا يعني بتاتاً إستبدالها بكلمات عاميّة مسفّة من قبيل البغرير، والبريوات، وما أشبه، بل كانت المطالب تهدف إلى مراجعة بعض المسائل التي تُشغل بالَ اللغويين، واللسنيين، والمثقفين لتقريب ذات البيْن بين لغة فصحى تتّسم بالخصوبة، والفحولة وبين لغة مبسّطة تنأى عن الكلمات، والتعابير، والمصطلحات الحوشية المهجورة.

 دعوات باطلة من هذا القبيل طالما نادى بها وروّج لها غيرُ قليل من المثقفين الذين كان فى قلوبهم غلّ أو فى عقولهم خلل ، أو ربما كانوا ذوي نيّات صادقة ولكنهم فى آخر المطاف كانوا مُخطئين، فمنذ منتصف القرن الماضي حار قوم فى إستعمال الفصحى أم العامية ، وتعدّدت الدراسات فى هذا المجال بين مؤيّد للعامية متعصّب لها بدعوى التبسيط والسهولة واليُسر ، وبين مُستمسكٍ بالفصحى لا يرضى بها بديلا . والحقيقة التى أثبتتها السّنون أن الغلبة كانت للفصحى على الرغم من هذه الدعوات والمحاولات، فكم من كاتب نادى وتحمّس للعاميّة وعمل على نشرها وتعميمها ،ثمّ عاد يكتب بفصحى ناصعة صافية نقيّة، وفى فترة مّا من فترات حياة أديبنا المرحوم محمود تيموركان قد تحوّل عن الفصحى إلى العامية بل إنه كتب قصصاً بها، غير أنه سرعان ما عاد كاتباً عربياً مبيناً ، بل ومتحمّساً كبيراً للفصحى ومدافعاً عن لوائها كعضو بارز فى مجمع اللغة العربية بالقاهرة . ودعوات الأديب والشاعر اللبناني الكبير سعيد عقل ، وسواه من الكتّاب إلى إستعمال العاميّة معروفة وسال من أجلها حبر غزير.

فى نفس هذا السياق كان قد أثير فى المغرب كما سبق القول  مؤخّراً نقاش حامٍ حول هذا الموضوع اعتقدنا فى بداية الأمر أن هذه الدعوة سرعان ما خبا أوارُها، وخمدت نارُها، ووئدت هي الأخرى فى مهدها ،حيث دعا بعضُهم إلى إستعمال ” الدّارجة” (العاميّة) بدل الفصحى فى بعض مراحل التعليم ،وعزا هؤلاء عن غير رويّة، ولا بيّنة ولا عِلم ولا برهان ذلك إلى المشاكل العويصة التي يتخبّط فيها التعليم فى هذا البلد ، ولكن هذه الدعوة سرعان ما عادت الى الظهور وكان لها آثار وخيمة ،وخلّفت استياءً عميقاً  لدى المثقفين وعلماء اللغة على مختلف الأصعدة والمستويات حيث طالبوا المسؤولين فى بلادنا فى طليعتهم الوزير الأوّل فى الحكومة الحالية بضرورة إعادة النظر فى هذه الخطوة المتعثرة والتراجع عنها.

من المعروف أن العالم يحتفي كلّ عام  باللغة العربية فى 18 من شهر ديسمبر كلغة عالمية، رسميّة، متداولة، ومُستعملة في جميع المحافل الدّولية، ولم يأتِ هذا التتويج عبثاً أوإعتباطاً ، بل جاء بعد نضالٍ متواصل، وجهودٍ متوالية إنطلقت منذ أواسط القرن الفارط  أفضت إلى إعتماد العربية لغة عملٍ في  الأمم المتحدة مع ترجمة مختلف وثائق العمل، وكذلك المحاضر إليها فضلاً عن توفير، وتأمين الترجمة الفورية بصفة نهائية،ثم جاء قرار الهيئة العامة لهذه المنظمة الدولية الذي جعل العربية لغة عمل بصفةٍ رسمية بين مختلف اللغات الحيّة الأخرى المعتمدة في الجمعية العامة،وأخيراً الإعلان عن اليوم العالمي لهذه اللغة علماً أن العالم لم يحتفِ قطّ بأيّ ” عاميّة” أو دارجة” فى أيّ بلدٍ عربيٍّ أو سواه !.

مع ذلك ما زالت تتوالى الدّراسات، وتتعدّد النقاشات،وتُطرح التساؤلات،والتخوّفات عن اللغة العربية، وعن مدى قدرتها على إستيعاب علوم الحداثة، والعصرنة،والإبتكار، والتجديد الذي لا تتوقّف عجلاته ولا تني ،وتخوّف فريق من عدم إمكانها مسايرة هذا العصر المتطوّر والمذهل، كما تحمّس بالمقابل فريق آخر فأبرز إمكانات هذه اللغة، وطاقاتها مستشهداً بتجربة الماضي، حيث بلغت في نقل العلوم وترجمتها شأواً بعيداً، كثر الكلام في هذا المجال حتى كاد أن يُصبح حديثَ جميع المجالس، والمنتديات،والمؤتمرات في مختلف البلدان العربية ، ويجوز لنا والحالة هذه أن نتساءل :هل تعاني العربيّة حقاً من هذا النقص..؟ وهل تعيش نوعاً من العزلة لدرجة أنّها في حاجة إلى حماية ودفاع من هذا القبيل..؟

تأكد للسّواد الأعظم من الدراسين  أنّ العربية ليست في حاجة الى إرتداء ذرع الوقاية يحميها هجمات الكائدين، ويردّ عنها شماتة المتخوّفين، إذ تؤكّد كلّ الدلائل،والقرائن قديماً وحديثاً أنّ هذه اللغة كانت وما تزال لغة حيّة ، اللهمّ ما يريد أن يلحق بها بعض المتشكّكين من نعوت، وعيوب،كانت قد أثارتها فى الأصل زمرة من المُستشرقين في منتصف القرن المنصرم ،حيث إختلقوا موضوعات لم يكن لها وجود قبلهم ،وما كانت لتعدّ مشاكل أونواقص تحول دون الخلق والتأليف والإبداع، وإنما كان الغرض منها إثارة البلبلة بين أبناء هذه اللغة، وبثّ الشكوك فيما بينهم حيالها، وهم أنفسهم يعرفون جيّدا أنّها لغة تتوفّرعلى جميع مقوّمات اللغات الحيّة المتطوّرة الصّالحة لكل عصر، ثمّ هم فعلوا ذلك متوخّين إحلال محلّها لغةَ المستعمِر الدخيل،وجدير بنا أن نذكّر فى هذا المقام ببعض المسائل والقضايا المفتعلة التى أثيرت فى هذا المضمار منها إشكاليات : الحرف العربي ، والنحو العربي، وشَكْل الكلمات، والعاميّة والفصحى التي سبقت الإشارة إليها أعلاه.

الحرف العربيّ

أمّا بالنسبة للحرف العربي ومعه الخطّ – فقد تعدّدت نداءات محاولات إصلاحه، وتحسينه، ولكنّها باءت بالفشل الذريع ، وظلّت الغلبة للأشكال المتوارثة التي كتبت بها عشرات الآلاف من الكتب في مختلف الميادين العلميّة والفلسفية والأدبية وسواها، زعموا أنّ شكل الحرف العربي الرّاهن وتركيبه لا يتّفق مع العصر، وأنّ رصف صفحة بالخط الفرنجي يعادل في الزّمن رصف صفحتين بالخط العربي لتزايد عيون الحرف العربي التي تتعدّد وتتغيّر بتغيير مواقعها فى الأوّل أو الوسط أو الأخيروهكذا ،فقدّم لنا بعضُ الباحثين أشكالاً متباينة لخطّ جديد تشبه الى حدّ بعيد رسوم الخط الفرنجي، غير أنّ القارئ يكتشف منذ الوهلة الأولى أنها فى غالبيتها أشكال غريبة عليه يمجّها ذوقه السليم، بل إنها فى بعض الأحيان تكلّفه عناءً شديداً في هجاء حرف واحد منها ،والحقيقة أنّ جمالية الخط العربي أو حرفه لا تبارى ، فقد ثبت الآن أنه حرف مثالي في جمال تكوينه، وشكله، وتنوّعه، والتوائه، وتعريجاته، ثم إن إستعمال الحواسيب الإلكترونية المتطوّرة الحديثة تتّجه سريعا نحو أساليب جديدة مبتكرة للكتابة ،وقد توصّل العلماء إلى إبتكار رسوم حديثة للحرف العربي لا تخرجه عن شكله، ولا تبعده عن أصله ومع إستعمال الكومبيوتر وإحتضانه،وإنتشاره وقبوله للحرف العربي بسهولة ويُسر بنجاح باهر وبنتيجة مُذهلة سقطت دعوى الداعين إلى إستبداله بالحروف اللاتينية، وبذلك يفقد خصوم هذه اللغة هذه المعركة.

إنه لمن السّخف أن نجد بين ظهرانينا من تسمح لهم أ نفسهم الدعوة إلى إستبدال الحرف العربي بالحرف اللاتيني، متّخذين ممّا إبتدعه مصطفى أتاتورك للّغة التركية مثالا يُحتذى، وكذلك بدعوى السهولة واليسر وضبط الكتابة، وإبراز حركات الحروف، وهذه الدعوى باطلة من أساسها ، تحمّس لها بعض خصوم هذه اللغة عرباً كانوا أم أجانب . ومن بين المفكرين الذين كانوا قد تحمّسوا لهذه الدعوى ذوي الثقل الخاص في القرن الماضي الكاتب سلامة موسى فى مصرالذي دافع عنها ، وقدّم تبريرات فى شأنها ، يقول فى ذلك :”هذا السّخط الذي يتولانا كلما فكّرنا فى حالنا الثقافية وتعطيل هذه اللغة لنا عن الرقيّ الثقافي، تزيد حدّته كلما فكّرنا وأدّى بنا التفكير الى اليقين بأنّ إصلاحها مستطاع ، والقلق عام ولكنّ الجبن عن الإبتكار أعمّ .ولذلك قلّما نجد الشجاعة للدّعوة إلى الإصلاح الجريئ إلاّ فى رجال نابهين لا يبالون بالجهلة والحمقى مثل قاسم أمين ، أو أحمد أمين في الدعوة إلى إلغاء الإعراب، ومثل عبد العزيز فهمي حيث يدعو إلى الخطّ اللاتيني وهو وثبة المستقبل لو أننا عملنا به لاستطعنا أن ننقل مصر إلى مقام تركيا التى أغلق عليها هذا الخطّ أبواب ماضيها وفتح لها أبواب مستقبلها” .

ولقد قدّم سلامة موسى بعض المقترحات منها : ” الحاجة إلى إلغاء الإعراب ،وميزاته أوّلا : الإقتراب من التوحيد البشري لأنه وسيلة للقراءة والكتابةعند الذين يملكون الصناعة ، أيّ العلم والقوّة والمستقبل.وهذا الخط تأخذ به الأمم التي ترغب فى التجدّد كما فعلت تركيا ، ومن المرجّح أن يعمّ هذا الخط العالم كله تقريباً. ثانيا:حين نصطنع الخط اللاتيني يزول هذا الإنفصال النفسي الذي أحدثته هاتان الكلمتان المشؤومتان : شرق وغرب،ويضمن لنا أن نعيش العيشة العصرية ،ولابد أن يجرّ هذا الخط فى أثره كثيراً من ضروب الإصلاح الأخرى مثل المساواة الإقتصادية بين الجنسين، و التفكير العلمي، والعقلية بل والنفسيّة العلمية أيضا،إلخ .وثالثاً: إننا عندما نكتب الخط اللاتيني نجد أن تعلّم اللغات الأروبية قد سهل أيضا،فتنفتح لنا آفاق هي الآن مغلقة.”ويختم سلامة موسى بالتساؤل التالي :وبالجملة نستطيع أن نقول إن الخط اللاتيني هو وثبة في النور نحو المستقبل ،ولكن هل العناصرالتي تنتفع ببقاء الخط العربي والتقاليد ترضى بهذه الوثبة ؟”.

لا شك أن القارئ يلاحظ كم في هذه الدعوة من مغالاة ، كما يتبيّن له ولا ريب أنّها لا تسنتد إلى أساس سليم تُبنى عليه، لا ترمى سوى إلى تشتيت التراث العربي وتشويهه. ولم يُكتب النجاح لدعوة سلامة موسى ودعوات غيره من أمثال أمين شميل ، وعبد العزيز فهمي، وقبلهما الدكتور سبيتا ،وويلمور، ووليم ويلكوكس ، وسواهم، وظلت السيطرة للحرف العربي إلى اليوم ، ثم ماذا كان سيفعل هؤلاء في كثير من الحروف العربية التى لا تجد لها رسماً سوى فى النطق العربي كحروف : الحاء، والغين ، والعين، والذال، والضاد، والطاء، والقاف،والثاء ،والهاء..إلخ. ثم ماذا سيكون موقفهم من التراث العربي الزاخر المكتوب بحروف عربية..؟ وهكذا وئدت هذه الدعوة في مهدها .

النّحو أو قواعد اللغة

إنّ النشء من متعلّمي اللغة العربية يشكون من صعوبة نحوها ،والحقّ أنه ما من ” نحو ” في أيّ لغة من لغات الأرض إلاّ ويعاني أصحابها من هذه الشكوى . ولقد أصبح ” نحو ” اللغة الألمانية مضربَ الأمثال فى الصّعوبة والتعقيد، على أن قواعد اللغة العربية ليست أشدّ صعوبة من هذه اللغة أو تلك. إن الخطأ الفادح الذى يقع فيه واضعو مناهج التعليم كونهم يلقنون القواعد في صورتها الجافة قبل النصوص ،فى حين نجد القائمين على مناهج التعليم فى المدارس الأوربية على إختلافها يعوّدون التلميذ على التعامل مع النصّ فى المقام الأول، فهو يقرأ ويعيد ويحفظ من غير أن يكون ذا إلمام بعلم النحو ، ثم يطبّق بعد ذلك ما قرأه على القواعد فإذا أردنا الخروج بنحونا من صلابته علينا أن نكثر في المراحل الأولى من مناهج تعليمنا من النصوص فالتعامل مع النصّ يكسب الطالب أو المتعلّم سليقة فطرية ،ويعوّده بطريقة تلقائيةعلى أشكال الحروف وبنائها وتراكيبها وتعدّد أساليبها ، فقد وجدت النصوص مذ كانت العربية ،أمّا النحو” كعلم قائم مدوّن” فلم يوضع إلاّ فى زمنٍ متاخّر، أيّ فى القرن الأوّل الهجري على يد الخليل بن أحمد الفراهيدي.

لقد كانت العرب إذن تنطق بالسليقة ، ولا تخطئ فى كلامها من غير أن تعلم لماذا كان الفاعل مرفوعاً ولا المفعول منصوباً،كما أنّ كثيراً من علماء العربية وواضعي معاجمها المشهورة كانوا يقصدون الأعرابَ فى البوادي حيث العربية سليمة نقيّة غير مشوبة فيأخذون عنهم النطقَ الصحيح، ومعروف عن الزّمخشري، والأصمعي، والكسائي ،وابن خالويه،وأبي عليّ الفارسي، وابن جنّي وسواهم كانوا يؤمّون البوادي ويسجّلون المعاني المستعملة عندها.

إذن فالشكوى من النحو هي شكوى من قواعده الجافة الموضوعة في قوالب مملّة شأنها شأن القوانين الجامدة، أما اللغة العربية فالدليل قائم على أنّ المران /والممارسة يكسبان دارسيها مهارة فائقة على التركيب السليم ،والنطق الصحيح ،وكم من متعلم أو كاتب لم يدرس القواعد ومع ذلك يستطيع أن يكتب ويؤلف نتيجة الممارسة والقراءة المتواصلة، القول المُعرب إذن قِوامُه القراءة الكثيرة، والخوض فى النصوص ، وهذا ما نرجو أن يتمّ ويعمّم فى مناهج تعليمنا ، أيّ مضاعفة حصص النصوص، وحسن اختيارالقواعد. وانطلاقاً من النصّ ودراسته نستنتج القاعدة التى بني عليها هذا النصّ،وهذا معناه التطبيق الفعلى للدراسة النظرية. وقديماً قيل : وَلسْتُ بنحويٍّ يلوكُ لِسانُه/ ولكنْ سليقيٌّ أقول فأُعْرِبُ .

وكم من محاولات لتبسيط النحو العربي التي تقدّم بها غير قليل من الدارسين ظلت حبراً على ورق دون أن تغيّر شيئاً من الوضع القائم، أما مسألة الشاذ في اللغة الذي يخرج عن المألوف والإستعمال يظلّ صورة متحفية لنطق بعض القبائل العربية القديمة لا ينبغي أن نأخذ به، فالشاذ أو الشارد أو النادر لا حكم له كما يقال. ولعلّك لا تتّفق مع القائل : خطأ مشهور ، خير من صواب مهجور !.

مسألة الشّكل

وتنبثق عن النحو مسألة أخرى يرى فيها البعض مشكلة قائمة بذاتها وهي مسألة” الشّكل” شكل الحروف العربية تفادياً للغموض واللبس والإبهام. وهناك إتهام مشهور يوجّه لأبناء اللغة العربية، في هذا الصدد، وهو أنه حتى كبار دارسيها يحارون أو يتعثّرون فى بعض الأحيان عند قراءة نصّ من النصوص العربية مخافة الخطأ أو اللحن ومن أجل شكلها شكلاً صحيحاً. على حين أننا نجد القارئ الفرنسي، أو الإسباني –مثلا- حتى وإن كان دون مستوى مرحلة الثانوية العامّة يقرأ النصوصَ فى لغته بطلاقة من غير أن يرتكب خطأ واحداً، وهذه من أخطر الإتهامات التي توجّه للغة العربية، ويرى فى ذلك الباحثون رأيين إثنين، يقول الأوّل:أن اللغة العربية ليست صعبة كما يدّعون، بل إنّ النقص كامن فيمن لا يجيدها حقّ الإجادة،وإذا كان المرء عالماً بأصولها، مطلعاً على أسرارها ، دارساً لقواعدها، ملمّاً بأساليبها فإنّه لا يخطئ ً، في حين يذهب الرأى الآخر أنّ العربية فعلاً تشكو من هذه النقيصة ،ففيما يخصّ شكل الكلمات على الأقلّ. هناك كلمات يحار المرء فى قراءتها القراءة الصحيحة وقد يقرأها على غير حقيقتها ، وهناك أخرى يمكن نطقها على خمسة أو ستة أوجه، وهذه مشكلة فى حدّ ذاتها ، ولكن فإنّه مع المران ،والممارسة،والقراءة المتعدّدة وتتبّع السياق كل ذلك يساعد على تفادى أمثال هذه الأمور التي لم تحلّ أبداً دون التأليف، والخلق ،والإبداع المُستمرّعلى إمتداد التاريخ .

العربيّة واللّغات الأخرى

الدّفاع عن لغة الضاد لا ينبغي أن يثنينا أو يبعدنا عن العناية، والإهتمام، والنّهوض، والدّفاع كذلك بشكلٍ متوازٍ عن عناصر هامّة، وأساسيّة أخرى فى المكوّنات الأساسية للهوّية الوطنية فى مختلف البلدان ، وفى حالة البلدان المغاربية على سبيل المثال ، فإنّ اللغات الأمازيغية الأصليّة فيها قد تعايشت مع لغة الضّاد منذ أقدم العصور فى هذه الرّبوع والأصقاع،فى مجتمعات تتّسم بالعدّد والتنوّع والإنفتاح ،ليس على لغاتها ولهجاتها الأصلية المتوارثة وحسب، بل وحتى على اللغات الأجنبية الأخرى ،وحسبي أن أشير فى هذا الصّدد إلى التعايش المتناغم الذي كان قائماً بين هذه اللغات ،والذي لم يمنع أبداً فى أن يكون هناك علماء أجلاّء فى هذه اللغة أو تلك من مختلف جهات ومناطق هذه البلدان،سواء البلدان المغاربية أو خلال التواجد الإسلامي بشبه الجزيرة الإيبيرية وبشكل خاص فى الأندلس،حيث تعايشت كلّ من اللغتين العربية والأمازيغية جنباً إلى جنب،بل لقد كان لهما تاثير بليغ فى لغة سيرفانتيس وفى لغات أخرى.

المُستشرقون ولغة الضّاد

العالم يركض ويجري من حولنا ، والحضارة تقذف إلينا بعشرات المصطلحات والمستجدّات يومياً.والإختراعات تلو الإختراعات تترى فى حياتنا المعاصرة،ونحن ما زلنا نناقش ونجادل فى أمور كان ينبغى تفاديها أو البتّ فيها منذ عدّة عقود ، ترى كيف يرى كبار المستشرقين الثقات هذه اللغة بعد إنصرام هذه القرون الطويلة التي لم تنل من قوّتها، وعنفوانها المُتجدّد حبّة خردل..؟ إنها ما زالت كما كانت عليه منذ فجرها الأوّل لم يستعصِ عليها دينٌ، و،لا عِلمٌ، ولا أدبٌ، ولا منطق، لقد شهد لها بذلك غير قليل من المستشرقين ، وإعترفوا بقصب السّبق الذي نالته على إمتداد الدّهور والعصورفى هذا القبيل . يقول المستشرق الفرنسي” لوي ماسّنيون” : “لقد برهنت العربية بأنّها كانت لغةعلم ، بل وقدّمت للعلم خدمات جليلة باعتراف الجميع، كما أضافت إليه إضافات يعترف لها بها العلم الحديث ، فهي إذن لغة غير عاجزة البتّة عن المسايرة والترجمة والعطاء بنفس الرّوح التى طبعتها على إمتداد قرون خلت،إنها لغة التأمل الداخلي والجوّانية ، ولها قدرة خاصّة على التجريد والنزوع إلى الكليّة والشمول والإختصار،إنها لغة الغيب والإيحاء تعبّر بجُملٍ مُركّزة عمّا لا تستطيع اللغات الأخرى التعبير عنه إلاّ في جُمَلٍ طويلة ممطوطة”. إنّه يضرب لذلك مثالاً فيقول:” للعطش خمسُ مراحل فى اللغة العربية ،وكلّ مرحلة منه تعبّر عن مستوىً معيّن من حاجة المرء إلى الماء ،وهذه المراحل هي: العطش، والظمأ، والصَّدَى،والأُوّام، والهُيام ، وهو آخر وأشدّ مراحل العطش، وإنسان “هائمٌ” هو الذي إذا لم يُسْقَ ماءً مات”، ويضيف ماسّينيون :”نحن فى اللغة الفرنسية لكي نعبّر عن هذا المعنى ينبغي لنا أن نكتب سطراً كاملاً وهو”إنه يكاد أن يموت من العطش” ولقد أصبح “الهُيام”(آخر مراحل العطش وأشدّها) كناية عن العشق الشّديد. وآخر مراحل الهوى، والصّبابة، والجوى.

ويرى “بروكلمان” أنّ معجم اللغة العربية اللغوي لا يضاهيه آخر في ثرائه. وبفضل القرآن بلغت العربية من الاتّساع إنتشاراً تكاد لا تعرفه أيُّ من لغات الدنيا. ويرى “إدوارد فان ديك”: أنّ العربية من أكثر لغات الأرض ثراءً من حيث ثروة معجمها وإستيعاب آدابها” ويقول المستشرق الهولاندي “رينهارت دوزي”:” إنّ أرباب الفطنة والتذوّق من النصارىَ سحرهم رنين وموسيقى الشّعر العربي فلم يعيروا إهتماماً يُذكر للغة اللاّتينية، وصاروا يميلون للغة الضاد، ويهيمون بها.” “يوهان فك”: يؤكّد أن التراث العربي أقوى من كلّ محاولة لزحزحة العربية عن مكانتها المرموقة فى التاريخ”. جان بيريك:” العربية قاومت بضراوة الاستعمار الفرنسي في المغرب، وحالت دون ذوبان الثقافة العربية في لغة المستعمر الدخيل”. “جورج سارتون”:” أصبحت العربية في النّصف الثاني من القرن الثامن لغة العلم عند الخواصّ في العالم المتمدين”. وهناك العشرات من أمثال هذه الشهادات التي لم تُخْفِ إعجابَها بلغة الضاد يضيق المجال لسردها.

أيّ مستوىً من الضّحالة، والإسفاف،والدّرَك الأسفل وصلنا إليه، أو أمسينا نتخبّط فى مياهه الآسنة خبطَ عشواء ، أينكم يا مُربّون، يا مُعلّمون، يا مُثقفون، يا مُنظّرون، يا مفتّشون،أفيقوهم من سباتهم العميق، وحذّروهم بما هم فاعلون، ومقترفون من إجرام فى حقّ الأجيال الصّاعدة، والنشء البريئ الذي ما زال فى مُقتبل العُمر؟ ربّاه ما هذا الهُراء، وما هذا الغثاء اللذان يبدوان وكأنّهما إيذانٌ،وإعلان،وإرهاصٌ وإنذارٌ ب (آخِرْ الزّْمَانْ) كما كانت تقول جدّاتنا المَصونات عليهنّ أوسع الرّحمات.

(عن موقع لكم)

اترك تعليقاً