الرئيسية / دراسات / علال الفاسي كمنظر للمجتمع الديمقراطي الحداثي
إن الزعيم علال حينما كان يقود حركة التحرير الوطني، لم يكن هدفه منحصرا في إنهاء الاحتلال الأجنبي، وتحقيق استقلال المغرب، ولم ينشغل في جهاده وفكره وعمله فقط بمقاومة الاستعمار، وإنما كان حريصا منذ ما قبل الاستقلال، على رسم معالم المغرب، بعد استعادة حريته واستقلاله، ووضعَ مشروعا مجتمعيا متكاملا، برز على الخصوص من خلال كتابه الشهير (النقد الذاتي)، الصادر في العام 1952، وطرح فيه نظرياته وتصوراته لما ينبغي أن يكون عليه المغرب بعد الاستقلال، في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

علال الفاسي كمنظر للمجتمع الديمقراطي الحداثي

إن الزعيم علال حينما كان يقود حركة التحرير الوطني، لم يكن هدفه منحصرا في إنهاء الاحتلال الأجنبي، وتحقيق استقلال المغرب، ولم ينشغل في جهاده وفكره وعمله فقط بمقاومة الاستعمار، وإنما كان حريصا منذ ما قبل الاستقلال، على رسم معالم المغرب، بعد استعادة حريته واستقلاله، ووضعَ مشروعا مجتمعيا متكاملا، برز على الخصوص من خلال كتابه الشهير (النقد الذاتي)، الصادر في العام 1952، وطرح فيه نظرياته وتصوراته لما ينبغي أن يكون عليه المغرب بعد الاستقلال، في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وفي المجال السياسي، اعتبر أن بناء الدولة العصرية في المغرب المستقل، لابد وأن يرتكز على الديمقراطية، بمفهومها المتعارف عليه في الديمقراطيات العريقة، والتي تتلخص مقوماتها الأساسية في: سيادة الأمة، وامتلاك الشعب لزمام أموره، وتدبيره لشؤونه بنفسه، بواسطة مؤسسات ذات تمثيل حقيقي، والفصل بين السلطات، واستقلال السلطة القضائية، والتعددية الحزبية، وتداول الحكم، وعدم احتكاره من طرف أي حزب أو طبقة اجتماعية، والحريات الفردية والجماعية، وحرية الفكر والصحافة، وحرية الانتماء السياسي والنقابي والجمعوي، واعتماد الحوار بين مكونات المجتمع السياسي، واحترام الرأي المخالف، وضمان حقوق الأقلية، وعدم الإقصاء، وإقرار المساواة بين المواطنين نساء ورجالا، وحماية كرامة الإنسان، وضمان حقوقه الأساسية، في إطار دولة الحق والقانون.
وقد خصص زعيم التحرير قسطا وافرا من جهده الفكري للتحليل العميق لهذه المبادئ، معتبرا أنها وإن كانت معروفة كمقومات للديمقراطيات الغربية، فهي تلتقي مع تعاليم الإسلام، التي تكرم الإنسان، ولا تقبل الاستبداد والطغيان، وتحث على إشراك المسلمين في تدبير شؤونهم، وتضمن الحرية والمساواة والعدل.(1)
وعمل الأستاذ علال الفاسي من موقعه كأحد علماء الإسلام المجتهدين المتنورين، وباعتباره مفكرا ومطلعا على الثقافات الإنسانية، وبوصفه قائدا سياسيا، عمل من خلال كتبه، ومقالاته، ومحاضراته، وخطبه، على توسيع تداول المفاهيم والمبادئ الديمقراطية، وترسيخها كثقافة تستهدف التحديث السياسي، معتبرا أن النضال السلمي في إطار المشروعية، هو السبيل الوحيد لبناء المجتمع الديمقراطي المنشود.
ويرى زعيم التحرير أن الديمقراطية غاية في حد ذاتها، لأنها تتيح المجال لمشاركة الجميع في الحياة السياسية، وتنظم العلاقات بين مكونات المجتمع وتياراته المتباينة، على أسس وقواعد متكافئة ومنصفة، وتضمن تدبير الشأن العام بأسلوب متحضر؛ وأن الديمقراطية كذلك وسيلة لتعبئة كل الطاقات التي تتوفر عليها البلاد، لخلق الثروات، وتحقيق التنمية، وضمان التوزيع العادل للخيرات الوطنية، في إطار التعادلية الاقتصادية والاجتماعية.
وقد اختار الزعيم علال الفاسي أن يُنَظِّرَ للديمقراطية انطلاقا من رؤية منفتحة وحديثة، وأن يكافح بكل الوسائل المشروعة لتصبح قاعدة التعامل والبناء في المغرب المستقل، في وقت كان فيه العالم العربي والإسلامي، والعالم الثالث بصفة عامة، تتقاذفه أمواج النزعة الانقلابية، والصراعات الدموية على السلطة، وتنتشر فيه أنظمة الحزب الوحيد، التي ترتكز على يقينية مذهبية شمولية، تزعم امتلاك الحقيقة، وتعتمد الإقصاء منهجا وسلوكا في ممارساتها، وتتخذ القمع والإرهاب الفكري، لإلغاء كل رأي معارض، أو توجه مخالف.
وواجه زعيم التحرير علال الفاسي بصلابة المؤمن، النظريات الاستبدادية التي كانت تُرَوَّجُ تحت غطاء شعارات ثورية، تستهوي شرائح اجتماعية واسعة، وخاصة من الشباب، وخاض معارك فكرية وسياسية لنُصرة البديل الديمقراطي، الذي يقوم على الحرية والمنافسة الشريفة والمشاركة، عوض القمع والتطاحن والإقصاء.
وإلى جانب المواجهة الفكرية والسياسية للتيارات الانقلابية، والنظريات الاستبدادية، كانت الجبهة الأساسية للنضال الديمقراطي بالنسبة للزعيم علال الفاسي، ومعه حزب الاستقلال، تتمثل في مواجهة خصوم الديمقراطية المتسترين، وهم الذين لا يتبنون الفكر المعارض لها، ويتظاهرون بالدفاع عن مبادئها، ولكنهم يعملون في العمق على تعطيل أدواتها، ويسعون لاحتكار مواقع القرار، عن طريق تمييع بعض مقومات الديمقراطية، وإقامة واجهات شكلية، ومؤسسات مزيفة، لتكريس اتجاه أحادي استبدادي، لا يختلف كثيرا عن أنظمة الحزب الوحيد.
وانطلقت المعارك التي خاضها الزعيم علال الفاسي على هذه الواجهة، من مطالبته منذ بداية الاستقلال بإقرار دستور يضمن مشاركة المواطنين في تدبير الشأن العام، عن طريق مؤسسات منتخبة، وفصل السلطات وتنظيم العلاقات بينها على أسس ديمقراطية، واستقلال القضاء، واحترام الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين.
ويفسر موقفه المساند للدستور الذي عُرض على الاستفتاء الشعبي في العام 1962 بأنه خطوة أولية للخروج من حالة اللا دستور، وغياب المؤسسات، وغموض العلاقات، إلى عهد تُنظم فيه شؤون الدولة بمقتضيات دستورية، ويقول رحمه الله: «إنه ليس من المعقول أن يظل المغرب بعيدا عن حق الرقابة والتشريع الشعبيين في وقت يريد فيه أن يخطط اقتصاده، ويواصل بناء استقلاله على أسس متينة من الإرادة الشعبية»(2).
غير أنه منذ إجراء أول انتخابات تشريعية في المغرب في العام 1963، ظهرت بوضوح قوى مناوئة للتوجه الديمقراطي، كما كان يرسمه وينظر له الفكر العلالي، واصْطُنِعَتْ « جبهة » سياسية استهدفت إجهاض الخيار الديمقراطي في مهده، وتم تزييف الانتخابات للحيلولة دون حصول الوطنيين الممثلين الحقيقيين للسواد الأعظم من الشعب على الأغلبية، لينقلب الوضع، ويحتل من لا تمثيلية لهم موقع الأغلبية، عن طريق الغش والتدليس، ويتحول ممثلو الشعب إلى مجرد أقلية.
وعلى إثر ذلك اتجه الجهد الفكري والسياسي والنضالي للزعيم علال الفاسي للتنديد بالانحراف، والتنبيه إلى أبعاده وأهدافه وعواقبه، والتحذير من المد الرجعي الذي ظهر في الحياة السياسية بشكل واضح، والذي كان يستهدف وضع مقاليد الأمور في بين مخالب طبقة فيودالية لا تهمها سوى مصالحها الضيقة، والمتعارضة مع مصالح وطموحات الطبقات العريضة من الشعب.
إن تزييف إرادة المواطنين في نظر زعيم التحرير، يجعل البلاد تعيش في ظل مؤسسات غير مشروعة، ويوضح ذلك بقوله:«لقد كانت طبيعة المعركة التي يجب أن نخوضها… بعد إعلان الدستور، هي معركة مواجهة التخلف، والتحرر من بقايا الاستعمار، لأن الأجهزة المفيدة للعمل، تكون قد تمت بوجود حكومة دستورية صالحة، ولكن تزييف الانتخابات ردنا إلى الوراء، وأرغمنا على خوض معركة لرد الأمور إلى نصابها، وهي معركة المشروعية».(3)
ولم يكن هذا الموقف بالنسبة لزعيم التحرير مجرد عمل سياسي اقتضته التطورات الظرفية، وإنما هو مبني على نسق فكري متكامل، يعتبر أنه لا مجال لقيام الديمقراطية في غياب حرية الاختيار، التي تجعل كل مؤسسة منتخبة، معبرة عن الإرادة الحقيقية للشعب، ويقول في هذا الصدد:« إن الحرية في النظام الديمقراطي هي الأساس الأول الذي لا يمكن بدونه وجود أي سلطة للشعب، كما لا يمكن مع عدمه تنفيذ أي انتخاب حقيقي».(4)
وكان دور المرحوم علال الفاسي على رأس حزب الاستقلال بارزا في التنديد بحالة الاستثناء التي أعلنت في العام 1965، واعتبر أنها بمثابة تكريس لانعدام المشروعية، بالإضافة إلى ما تنطوي عليه من تعطيل للحياة النيابية، وتغييب للرقابة الشعبية على الحاكمين.
وحينما أُعلن عن دستور جديد في العام1970، تزعم علال الفاسي حملة التصويت عليه بلا، باعتبار أنه كان خطوة تراجعية بالنسبة للدستور الأول، وباعتبار أن الدستور في نظره ليس مجرد وثيقة يمكن أن يُكتب فيها أي شيء، وإنما هو وسيلة لتنظيم السلطات على قواعد ديمقراطية، في إطار سلطة المؤسسات ودولة القانون.
ولم تكن الديمقراطية مجرد شعار يرفعه الزعيم علال الفاسي للاستهلاك، أو تدخل في نطاق التاكتيك السياسي، وإنما كانت مبنية على قناعة فكرية، وتوجه استراتيجي في أسلوب تنظيم الشؤون العامة للبلاد، واختيار أساسي لتحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية، وبناء مغرب قوي ومتقدم، ولذلك نجد أنه لم يكن ليقبل بالاقتصار على مجموعة من الواجهات، والمؤسسات المغشوشة والعديمة المصداقية، ولم يكن يرتض أبدا أن يكون للمغرب برلمان مزيف وحكومات لا تتجاوب مع إرادة الشعب.
وكل متأمل متمعن اليوم في أفكار الزعيم علال الفاسي، وما كان ينادي به منذ أزيد من نصف قرن من الزمن، لابد وأن يشعر بالحسرة على السنين الضائعة، قبل أن يتعمم الاقتناع بالخيارات الأساسية التي كان يتبناها رحمه الله، حيث أصبحت اليوم مختلف القوى السياسية، تعتبر أن العمل المجدي، لابد وأن يكون في إطار المشروعية، وأن النظام الديمقراطي السليم، في ظل الملكية الدستورية، هو وحده الكفيل بإتاحة الفرص المتكافئة لكل مكونات المجتمع، من أجل المشاركة الإيجابية في الحياة السياسية، وأن الديمقراطية هي الطريق الأسلم لتحقيق التنمية والتقدم.
وتعميم القناعة بهذا التوجه الذي أصبح يعرف بالمشروع الديمقراطي الحداثي، ليس سوى تأكيد لصحة وصواب، ما كان يفكر فيه، وينظر له، ويكافح من أجله، زعيم التحرير علال الفاسي رضوان الله عليه.
واليوم لابد أن نستخلص العبر الضرورية، من الأحداث والتطورات التي عرفتها بلادنا خلال الخمسين سنة الماضية، حيث لم يعد هناك مجال لإهدار الزمن، وآن الأوان للوصول إلى المحطة الأخيرة في الانتقال الديمقراطي، لاستثمار كل الطاقات البناءة المتوفرة، في دعم وتوسيع أوراش الإصلاحات والإنجازات الكبرى التي فتحت منذ العام 1998، وتعززت أكثر باعتلاء جلالة الملك محمد السادس عرش أسلافه.
إن الوضع الراهن ببلادنا لا يقبل ترديد الشعارات، وإحداث الواجهات، وإنما يتطلب مشاركة حقيقية وفعالة للقوى الحية في وضع الاختيارات العامة، وفي صنع القرارات، وإقرار الضمانات الكافية للحريات وحقوق الإنسان؛ كما أن تدبير الشأن العام في حاجة إلى مزيد من الترشيد والعقلنة، وحسن استثمار الموارد المتوفرة، بما يستجيب لمتطلبات التنمية، ويحقق طموحات الفئات العريضة من الشعب، في إطار مؤسسات ديمقراطية حقيقية، تتمتع بالمصداقية والفعالية، وتلك هي الغايات التي كان يسعى إليها ويكافح من أجلها زعيم التحرير علال الفاسي رحمه الله. وناضل من أجل تحقيقها من ظلوا أوفياء للفكر العلالي.
ــــــــــــ
1) أنظر كتاب النقد الذاتي، الباب الثاني، التفكير بالمثال، وكتاب الديموقراطية وكفاح الشعب المغربي من أجلها، وكتاب معركة اليوم والغد، المشروعية، الديموقراطية، التعادلية.
2) علال الفاسي، معركة اليوم والغد، باب الاستقلال والدستور.
3) المرجع السابق
4) علال الفاسي، النقد الذاتي، باب ا

اترك تعليقاً