الرئيسية / أخر المستجدات / في معنيين للسياسة

في معنيين للسياسة

د عبد الإله بلقزيز/

لمفهوم السّياسة عند الفيلسوف دلالة خاصّة قد لا يشاركه إيّاها عالِم السّياسة و-خاصّة- عالم الاجتماع وعالِم الاجتماع السّياسيّ لِما بينهم من بوْنٍ وتمايزٍ لِجهةِ اختلاف زوايا النّظر إلى الموضوع أو، قُل، لِما بينهم من اختلافٍ في النّظر إلى مكانة السّياسة وتَبدّيّاتها (الدّولة، السّلطة) من الاجتماع الإنسانيّ… ومن التّفكير معاً.

إنّ ما قد يدخل في الأفق المعرفي للمشتغلين في ميادين علم السّياسة وعلم الاجتماع السّياسي والأنثروپولوجيا السّياسيّة من عواملَ وأبعاد في تكوين السّياسة والدّولة وفي نظام الاشتغال فيهما وفي مفهومهم، بالتّالي، لها ربّما لا يعني غيرهم من الدّارسين، أو هو قد لا يدخل ضمن الأفق الذّهنيّ للفيلسوف، مثلاً، ولا هو يُعْنى بأمره، بل قد يُعْرِض عنه، إعراضاً تامّاً، أو قد يتناوله -إنْ هو تناوله- بالنّقد والنّقض. لذلك، من المفهوم أن تختلف مقاربات هؤلاء عن مقاربات أولئك باختلاف هذه المنطلقات والاستعدادات لاستدخال عناصر ما في التّحليل أو لرفض العملِ بها.

السّياسة، عند الفيلسوف، مقترنة بِالعقل ولا يمكنها إلا أن تكون فعلاً عاقلاً. هكذا تَمثَّلها فلاسفة الإغريق، منذ بدايات التّأليف الفلسفيّ في السّياسة، فكان أن عَدُّوها صناعةً خاصّة بالحكماء والنّبلاء من الذين ترجَّحت في نفوسهم القوّةُ العاقلة على القوّتين الشّهوانيّة والغضبيّة، وممّن ارتفعت نفوسهم عن حدّ العبوديّة للحاجات الماديّة.

لا عجب إنْ كان الفلاسفةُ أولاء قد أخرجوا العبيد والتّجار والنّساء -وكلّ مَن هُم في دائرة مَن يرتبط بنظام الحاجات- من المدينة (الدّولة) ومن المواطَنة؛ لأنّ الشّؤون العامّة، شؤون المدينة (السّياسة، التّشريع، الحكم…)، لا يكون أهلاً للقيام بها -من حيث هي وظائف عاقلة- سوى مَن تَحَلَّوا بهذه القوّة العاقلة والغالبة لغيرها من قوى النّفس. هكذا هي عندهم النّظرةُ إلى السّياسة وإلى عاقليّتها؛ وهذا هو الذي يميط النّقاب عن سبب ذلك الإصرار عندهم على أن يقوم نظامُ المدينة على العقل، وعلى أن يكون للفيلسوف مكانُ القيادة فيه من حيث هو التّجسيد الماديّ الاجتماعيّ لسلطة العقل.

لم يختلفِ الأمرُ، كثيراً، في الفلسفة الحديثة. ظلّ العقل مرجعاً ومَمْتَحاً للسّياسة وفي الوقتِ عينِه، رائزاً تُرازُ به الأفعالُ والعلاقات داخل الاجتماع السّياسيّ. كل كلامِ فلاسفة العقد الاجتماعيّ (هوبس، لوك، سپينوزا، روسو، كَنْت…) دائرٌ على فكرة مصدريّة العقل لكلّ سياسة: قوانين العقل تُملي وجوبَ حِفظ قوانين الطّبيعة من العدوان عليها أو انتهاكها؛ العقل يقضي بالخروج من حالة الطّبيعة état de nature التي لا تضمن حماية الحقّ الطّبيعيّ؛ إمّا لأنّها حالة حرب (هوبس)، أو لأنّها قد تنقلب من حالة سِلمٍ ومساواة إلى حالة حرب (لوك، روسو)؛ ثمّ إنّ العقل هو الذي يقضي بإقامة المجتمع المدنيّ (الدّولة) للخروج من تلك الحالة، ومن أجل تحويل الحقوق الطّبيعيّة (الحريّة، المساواة، السِّلم، الملْكيّة…) إلى حقوق مدنيّة.

أخيراً، أليس العقل هو عينُه الذي تُشْتَقّ منه القوانين التي تصون هذه الحقوق المدنيّة والسِّلْم المدنيّة والاستقرار؟ ومع أنّ فلسفة العقد الاجتماعيّ هذه -التي نظّرت للدّولة وقدّمتْ هندسةً سياسيّة لصيغتها الحديثة- تعرّضت لنقدٍ فلسفيّ لاذعٍ من هيغل، إلا أنّ الأخير لم يبْرح القولَ بعاقليّةِ السّياسة والدّولة، بل ذهب في ذلك إلى الأبعد حين عَدَّ الدّولةَ تجسيداً ماديّاً للعقل. أمّا في القرن العشرين، فاستمرّ النّظر إلى السّياسة والدّولة بحسبانهما قرينيْ العقل والعقلانيّة (لينين، ماكس ڤيبر، غرامشي…)؛ وكان يكفي أن تنقلب السّلطة السّياسيّة على قواعد العقل والرّشد السّياسيّ ليُنْظَر إليها بوصفها سلطة منحرفة عن قواعد السّياسيّة. أليس ذلك مضمونُ النّقد الذي وجّهته حنّة أرندت لِمَا سَمَّته النّظام الكُلانيّ؟

لا يتمسّك علم الاجتماع السّياسيّ والأنثروپولوجيا السّياسيّة بفكرة عاقليّة السّياسة والدّولة مثلما تفعل الفلسفة، وإلى حدٍّ مّا، علم السّياسة. نراهُما ينتبهان، أكثر، إلى أبعادٍ وديناميّات أخرى في الاجتماع السّياسيّ -كما في الاجتماع المدنيّ- ربّما كانت غيرَ ملحوظة أو غيرَ مأبوهٍ بها عند الفلاسفة؛ وأكثرُ المُنْتَبَهِ إليه -والمنْصَرَفِ إلى البحث فيه في ذينك الميدانين- دائرٌ على اللامعقول أو على فاعليّاتٍ أخرى في النّفس والإنسان غير العقل: مثل الغزيرة، والمزاج والهوى، والعاطفة، والخيال، والمقدّس، والكاريزما (الهيبة والبَرَكة) وما في معنى ذلك.

هكذا تكون العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة (علم النّفس منها)، بتوسُّلها هذه الأبعاد غير المعقولة، قد سدّدت ضربةً معرفيّةً للأساسات التي أقامت عليها الفلسفةُ نظرتَها إلى السّياسة، في الوقت عينِه الذي فتحت فيه أفقاً للارتياد العلميّ في عمليّة التّفكير في السّياسة والمجال السّياسيّ. وعلى ذلك، حين يكون موضوعُ التّفكير والبحث هو مجالٌ سياسي مزدحمٌ بأبعاد التّقليد والحداثة، العقل والهوى والمزاج، المُوعى به وغير المَشْعور به، الحساب الواقعيّ والخيال… إلخ، لا شكّ في أنّ على ذلك التّفكير أن يَغْرِف من الميدانين معاً: الفلسفة وعلوم الاجتماع والإنسان.

 

[email protected]