الرئيسية / أخر المستجدات / الكـونيّة ليست نقضاً للخصوصيّات

الكـونيّة ليست نقضاً للخصوصيّات

د عبد الإله بلقزيز/

بين الكونيّة والغَلَبة، أو الكونيّة والتّسلُّط والهيمنة فارق في المعنى لا يجوز الإغضاء عنه أو عدم الانتباه إليه أو اللاّمبالاة به؛ ويتعلّق بما في الفِعْلين من مساحةٍ للإكراه أو للقبول، للتّهميش أو للإِشراك، وفي هذا فيْصل التّفرقة بين المفهومين، بلِ المعيارُ الذي تُدْرَك به الصّلة بينهما بحسبانها صلة تَضادٍّ وتَنافٍ: في الدّلالة، وفي المضمون والغايات.

صحيحٌ أنّ الكونيّة اقترنت، دائماً، بالقوّة فكان القوي هو مَن يفرض على العالَم رؤاهُ وأفكارَه ومعاييرَه والقيم، وكلّ الحضارات الكبرى في التّاريخ، التي عمّرت لمئات السّنين، كانت من هذا النّوع من الكونيّة التي حَملتْها دولة أو إمبراطوريّة قويّة إلى الآفاق، فانتشرت قيمُها الثّقافيّة والدّينيّة ومدنيّتُها ولسانُها في أوساط شعوبٍ وأممٍ أخرى إمّا خضعت لسلطانها السّياسيّ مباشرةً، أو وقعت تحت تأثير سلطانها الثّقافيّ والحضاريّ.

هذا يَدُلنا على أنّ اقتران القوّة بالكونيّة كان بمعنيَيْن: بمعنى أنّ قوّة الدّولة: بحضارتها وثقافتها وديانتها، دخلت في جملة العوامل التي صنعت كونيّة قيمِ تلك الحضارة؛ ثمّ بمعنى أنّ قوّة الدّولة كانت الحامل الذي نَقل قيم حضارتها إلى العالم الخارجيّ. تعني القوّة في الحالة الأولى (حالة الصّنع) القوّة المعنويّة: الثّقافيّة والأخلاقيّة والرّمزيّة؛ وتعني في الحالة الثّانية (حالة الحَمْل والنّقل) القوّة الماديّة. لكنّ قراءة تاريخ الكونيّات (أو الحضارات الكونيّة) تُطْلِعنا على فارقٍ كبير في قيمة منتوج كلٍّ من القوّتين المومَأ إليهما.

ما يصير في حُكم الكونيّ لمجرّد أنّه حُمِل على حوامل القوّة المادّية مشتَبهٌ، إلى حدٍّ بعيد، في كونيّته: أعني في قدرته على أن يعبّر – تعبيراً أميناً ومطابقاً – عن الكيان النّفسيّ والثّقافيّ والقيميّ لدى من يحملون قيم تلك الكونيّة. نعم، في وُسع القوّة الماديّة أن تفرض قيم المجتمع الغالب وأن تُكْرِه المغلوب عليها إكراهاً لا قِبَل له بردّه. وهي تفعل ذلك لا بالغزو فقط (إذِ الغزو من ديناميّات التّاريخ ومن عوامل اتّحاد الجماعات)، بل بتدمير البيئة الثّقافيّة واللّغويّة والدّينيّة للمغلوب قصد ابتلاعه واستتباعه في كونيّتها، أي من طريق مَحْو مقوّمات شخصيّته وتجفيف ينابيعها. ولقد قام من التّاريخ الكثير من الأدلّة على إخفاق هذا النّوع من الإدماج القسريّ للأطراف في المركز وتوليد كونيّةٍ منه، أو – على الأقلّ – على الحدود المتواضعة التي استطاعتْها هذه «الكونيّة» المسلّحة بأدوات القوّة والمحمولة على صهوة القوّة.

لا حاجة إلى كثيرِ شرْحٍ لبيان أنّ هذا الضّرب من «الكونيّة» ليس له من الكونيّة شيء وأنّه، في مفهومه، أقرب إلى الغلبة والهيمنة منه إلى الكونيّة التي يدّعيها. وما أغنانا عن القول إنّ مثل هذه «الكونيّة» المزعومة هو ما تنتحله، اليوم، دولٌ ومؤسّسات في الغرب الأمريكيّ والأوروبيّ تدعو مجتمعات وثقافات أخرى (من الجنوب) إلى اعتماد المعايير والقيم الغربيّة: الاجتماعيّة والثّقافيّة والأخلاقيّة بوصفها «كونيّة» وبالتّالي، التّخلّي عن كلّ ما تعتبره تلك المجتمعات والثّقافات في صميم خصوصيّتها ومواريثها الحضاريّة. إنّها دعوات إلى شيءٍ آخر غير الكونيّة؛ دعوات إلى الغَرْبنة (الأَمْرَكة والأَوْرَبة) باسم الكونيّة.

على أنّ الكونيّة التي يكون مأْتاها من القوّة المعنويّة – الثّقافيّة والأخلاقيّة – لا تفرض نفسها على المجتمعات كَرْهاً، بل تضوي إليها المجتمعاتُ والثّقافات بالتِّلقاء والطّوْع؛ لأنّها تجد فيها نفسَها، أو تعثُر فيها على قيمٍ رفيعة يغتني بها داخلُها. الكونيّةُ التي من هذا الجنس اللّيّن تَنْمازُ عن غيرها بأنّها تحظى بقدرٍ كبيرٍ من المقبوليّة لدى مَن يتّصلون بها، وحتّى لو تولَّد هذا الاتّصال من سوابِق عنف.

والكونيّة حين تكون هكذا، أي مشروعاً للاحتذاء والاقتداء، لا تتنزّل بمنزلة الحالة النّقيض من حالة الخصوصيّة، ولا تنهض على قوائم تطأ الخصوصيّات وَطْء إلغاءٍ وإفناء، وإنّما هي – على العكس من ذلك تماماً – تتبدّى في شكل محصّلةٍ تركيبيّة لخصوصيّات/ لثقافاتٍ وقيمٍ عِدّة. بيان ذلك أنّ الكونيّة ليست معطًى جاهزاً ناجزاً قابلاً للتّعميم، وإنّما هي تُبْنَى وتُشيَّد من موادّ ثقافيّة عدّة. ومع أنّ الكونيّة تُنْسَب إلى فاعلٍ رئيس (الرّومان، مثلاً، في حالة الحضارة الرّومانيّة، والعرب والمسلمون في حالة الحضارة العربيّة، والأوروبيّون في حالة الحضارة الغربيّة)، إلاّ أنّ الحضارة – التي صارت كونيّة – في كلّ من هذه الحالات الثّلاث ليست صناعةَ قَوْمٍ بعينهم، بل صناعةُ الأقوام جميعِها – وثقافاتها – المشاركة في تلك التّجربة الحضاريّة. هكذا تتجاوز الكونيّةُ الخصوصيّاتِ المكوِّنةَ لها… ولكن بعد أن تستوعبها.

 

[email protected]