الرئيسية / أخر المستجدات / “يراودني حلم”

“يراودني حلم”

د يوسف الحسن/

دخل خطاب الزعيم الزنجي مارتن لوثر كينج الابن، والذي ألقاه في تظاهرة شعبية كبرى، في نهاية شهر أغسطس عام 1963، في العاصمة الأمريكية واشنطن دي سي، في أعماق الوعي الوطني، والفكر الأمريكي، كنداء بليغ ومؤثر، ومعبر عن أهداف حركة الحقوق المدنية.

كان خطابه، الذي أطلق عليه اسم، «يراودني حلم» I have a dream والذي رددته الملايين من أبناء الشعب الأمريكي، وصفَّق له أكثر من مئتي ألف أمريكي زنجي، وعدد من الشخصيات المدنية البيضاء، في تلك التظاهرة التي جرت في منتزه المشاة، بين نُصب لنكولن التذكاري، وصرح واشنطن التذكاري، للمطالبة بالإنصاف والمساواة، وإنهاء سياسات الفصل العنصري.

ولد مارتن لوثر كينج الابن في عام 1929، في مدينة أتلانتا بولاية جورجيا، وهو ابن لقسيس معمداني، ودرس اللاهوت، والدكتوراه في الفلسفة من جامعة بوسطن، وصار زعيماً لحركة الحقوق المدنية، والتي تضم عدداً من القيادات الزنجية الجنوبية، وقاد حركة سلمية، واحتجاجات ضد التمييز والفصل العنصري، وأودع السجن بسبب هذه الاحتجاجات السلمية. واعتبر أن «الظلم في أي مكان، هو تهديد للعدالة في كل مكان».

وقد اختلف مع بعض كبار رجال الكنيسة والذين طلبوا إليه وقف التظاهرات، والاعتماد على المفاوضات والمحاكم، وكان ردُّه: «إن الحرية لا تعطى طواعية على الإطلاق من جانب الظالم؛ بل يجب أن يطالب بها المظلوم، وخاصة أن تشريعات الفصل العنصري هي تشريعات غير عادلة، وتشوِّه الروح وتؤذي الشخصية».

اتخذ مارتن لوثر كينج الابن موقفاً معتدلاً بين قوتين متعارضتين في الوسط الزنجي، إحداهما، وهي أقلية، قبلت السكوت والرضا، وفقدت الإحساس بمشكلات ومساوئ الفصل العنصري بعد أن حصلت على مكاسب صغيرة اقتصادية أو أكاديمية، أما القوة الأخرى، فهي قوة وطنية زنجية، اقتربت من ممارسة العنف، بعد أن فقدت إيمانها بالرجل الأبيض ووعوده، ورأت فيه شيطاناً لا يمكن إصلاحه، ومن أهم عناصر هذه القوة «حركة المسلمين السود».

مارس مارتن لوثر كينج نهج اللَّاعنف، وآمن بمبدأ: «إن الحق المهزوم أقوى من الشر المنتصر».

في خطابه «يراودني حلم» تنبأ بانتصار حركته المقاومة للفصل العنصري، وشخَّص الكثير من مخاطر التمييز والعنصرية، ومن بين ما جاء في خطابه الشهير: «إن الزنجي مازال بعيداً عن الحرية، وما زالت حياته حزينة، ويعيش في جزر فقيرة ومنعزلة، وسط محيط هائل يموج بالرفاهية المادية، ويجد نفسه منفياً غريباً في أرضه». «حان الوقت للنهوض من وادي الفصل العنصري المظلم والموحش، إلى طريق العدالة العرقية الذي تنيره الشمس، وفتح أبواب الفرص بين جميع أبناء الله». «لن تنعم أمريكا بالراحة أو الهدوء، حتى يحصل الزنجي على حقوقه في المواطنة، وستبقى أعاصير الثورة تهز أركان أمريكا إلى أن ينبلج ضوء نهار العدالة الباهر». «يجب ألا نكون مذنبين بارتكاب أعمال خاطئة، وألا نسعى لإطفاء تعطشنا للحرية، بتجرع ما في كأس المرارة والبغضاء، وألا نسمح لاحتجاجنا الخلَّاق بالانحدار إلى وَهْدة العنف المادي، ولا مناص من الارتفاع إلى المعاني الجليلة المنطوية على مقابلة القوة الجسدية بقوة الروح». «لن نرضى أبداً أن يظل الزنجي ضحية لوحشية الشرطة، وأن تبقى حركة الزنوج مقتصرة على الانتقال من حي فقير منعزل (غيتو) صغير إلى حي فقير منعزل أكبر. ولن نرضى أبداً ما دام الزنجي محروماً من التصويت في بعض الولايات». «أقول لكم أيها الأصدقاء، إنه رغم مصاعب لحظتنا وإحباطاتنا، فإنه ما زال يراودني حلم، بأن هذه الأمة ستنهض يوماً ما، لتعيش المعنى الحقيقي لعقيدتها القائلة: «الناس جميعاً خلقوا متساويين»، كما يراودني حلم بأن أبناء العبيد السابقين وأبناء مالكي العبيد السابقين، سيتمكنون من الجلوس معاً إلى مائدة الأخوة الإنسانية».

«يراودني حلم أن أطفالي الصغار الأربعة، سيعيشون ذات يوم، في أمةٍ لن يحكم عليهم فيها بلون بشرتهم؛ بل وفق محتوى أخلاقهم وشخصيتهم».

«يراودني حلم اليوم، بأننا سنتمكن من أن ننحت من جبل اليأس حجر الأمل، وأننا سنكون أحراراً ذات يوم، وسيكون ذلك اليوم هو الذي سيستطيع السود والبيض وكل الأمريكيين، أن ينشدوا معاً أنشودة «يا بلدي، يا أرض الحرية»، والتي مات فيها أبي، وكل الروَّاد والمهاجرين ولنقرع أجراس الحرية في كل الجبال والتلال والمدن والقرى، وتتشابك الأيادي معاً، ومرددين كلمات الأنشودة الزنجية القديمة: «أحرار في النهاية.. أيتها الحرية سننتصر ذات يوم.. لا مزيد من النواح أو البكاء، وقبل أن أصبح عبداً سأكون مدفوناً في قبري، وسأذهب إلى مثواي عند ربي، وأصبح حراً».

بعد اغتيال الرئيس الأمريكي الأسبق كنيدي في عام 1963، قال: مارتن لوثر كينج لزوجته، «هذا ما سيحدث لي أيضاً، وسأستمر بقولي إن هذا مجتمع مريض».

في يوم الرابع من إبريل 1968، خرج إلى شرفة غرفته في فندق بمدينة ممفيس، وسرعان ما أطلقت عليه رصاصة واحدة، كسرت فكه وقطعت شرايين رئيسية، وسقط بعنف من الشرفة فاقداً الوعي، توفي في مساء اليوم نفسه. عثرت الشرطة على بندقية ومنظار في غرفة سكن مؤجر يقع مقابل الفندق، تم اعتقال القاتل جيمس ايرل راي بعد شهرين في مطار هيثرو بلندن، وتم تسليمه إلى أمريكا، واعترف بذنبه، وحكم عليه بالسجن لمدة 99 عاماً، لكنه تراجع عن اعترافه بالذنب، وأعيدت محاكمته من قبل هيئة محلفين، ومات في السجن في عام 1998، عن عمر يناهز السبعين.

ورغم حث العديد من قادة السود على الهدوء، فقد اندلعت موجة كبيرة من أعمال الشغب في أكثر من مئة مدينة.

وثائق الجاني، أو الجناة، دخلت ملف الوثائق السرية، وربما تظل سرية حتى 2027، وربما لن يكشف سرها، مثلها مثل ملف الرئيس كنيدي، وإلى الأبد.

سمعت من القس جيسي جاكسون والذي كان بصحبة مارتن لوثر كينج حين تم اغتياله، في جلسة حوار في منزل المرحوم كلوفيس مقصود في واشنطن دي سي، في مطلع الثمانينات، «أن القاتل ليس لديه الدافع والمال والتنقل وجواز السفر المزيف، لفعل ذلك بنفسه، إن أجهزة حكومية متورطة في ذلك».

حصل هذا الزعيم الأمريكي من أصول إفريقية، على جائزة نوبل للسلام في عام 1964، لرفضه العنف بكل أنواعه، ولدعوته لأن تكون الوسيلة التي يستخدمها الإنسان بنفس نقاء الغاية التي يسعى إليها. وقد آمن هذا الزعيم بأنه «لا يستطيع أحدٌ امتطاء ظهرك إلا إذا انحنيت»، كما كان يقول.

ومما يذكر أن والده القسيس زار قبل الحرب العالمية الثانية، مصر وتونس والقدس وبيت لحم في فلسطين.

وفي ثالث يوم اثنين من شهر يناير من كل عام، تحتفل أمريكا بعطلة وطنية رسمية لتتذكر حياة وإنجازات مارتن لوثر كينج الابن.