الرئيسية / أخر المستجدات / الحق في التربية

الحق في التربية

عبد الحسين شعبان/

تعود الجذور الأولى لفكرة الحق في التربية إلى الفكر الفلسفي القديم، وقد تطورت في ظل فلسفة الأنوار، وبالأخص على يد إيمانوئيل كانط، الذي يعتبر أحد أهم أعمدتها، حيث نبتت في تربتها وترعرعت ونمت في كنفها حتى غدت مفهوماً محورياً في الحقوق الإنسانية، بل منظومة متكاملة ومترابطة على نحو محكم ودقيق، وإهمال أي جزء منها سيؤدي إلى إخلال بالأجزاء الأخرى.

و«الحق في التربية» يقوم على أساس الحرية كفعل، وهذه الأخيرة جزء لا يتجزأ من الطبيعة البشرية، وهدفه تنمية الثقافة داخل كل فرد، بوصفها قدرات وكفايات كونية تتأسس على العقل الذي يجعل منها غايات لتقدم البشر وسعادتهم، معيشياً وأخلاقياً وثقافياً وسياسياً.

و«الحق في التربية» يرتبط بالحاجة أيضاً، وهكذا يصبح حقاً وواجباً في آن، فثمة علاقة بين المرجعية الحقوقية والقانونية، وبين المرجعية التربوية والسيكولوجية، بحيث تسمح هذه المنظومة بمقاربة الحق بجوانبه المختلفة في علاقاته بالحاجة وهذه الأخيرة بالكرامة والأمن والسلم والتنمية والرخاء.

و«الحق في التربية» هو جزء من خطاب أشمل يتعلق بمفهوم التربية بصفتها صناعة بشرية، أي فعل للحرية وصيرورة لاكتمال الكائن البشري، وهذا الحق يرتبط بعنصرين أساسيين مترابطين هما: المرجعية القانونية – الحقوقية، التي تقوم عليها فكرة المواطنة والحريات، والمرجعية التربوية النفسية، أي الحاجة إلى التربية لضرورتها وغاياتها ارتباطاً بالمؤسسات التكوينية، وهي الفضاء الذي يتم فيه التعبير عن الخطط والبرامج للعملية التربوية بمختلف جوانبها.

وهناك عنصر ثالث محوري ولا يمكن تغافله أو إهماله في مقاربة «الحق في التربية»، وهو المرجعية السياسية، والمقصود بذلك الإرادة السياسية للدولة وتوجه صاحب القرار، ولا سيما في التربية الحديثة التي لا غنى عنها للعملية التربوية وكجزء من النظام التعليمي والخطط المركزية للدولة ووظيفتها، كما هناك عناصر أخرى تندرج فيه، ونعني بها المرجعية الأخلاقية، فالأخلاق جزء من التربية والسلوك العام، وهو يعكس المرجعية الثقافية، والثقافة بمعناها العام نمط حياة الناس وطريقة عيشهم بما في ذلك علمياً وتقنياً وذوقياً واجتماعياً.

وثمة ثلاث تحديات أساسية تتعلق بالمفهوم، وهي: التربية كحق بشري، والتربية كفن بشري، والتربية كصيرورة لاكتمال القدرات والمهارات البشرية.

وطالما كانت التربية حقاً للطفل يقره العقل، فيمكن إدراجه في إطار «واجبات الإنسان تجاه ذاته»، وهذه ضمن الحقوق البشرية التي هي ذات بعدٍ أخلاقي والتي تسهم في إكمال الإنسان لذاته بشكلٍ عام، ولغيره أيضاً.

وحين تكون التربية واجباً فهذا يعني احترام الحقوق الإنسانية داخل كل شخص والمحافظة على الحقوق الطبيعية للفرد، وفي مقدمتها حق الحياة، وكل فعل يمس بذلك هو جريمة دولية ضد الإنسانية، ومن واجب التربية الحفاظ على الحياة البشرية، على جسد الإنسان، فالحياة مشروطة بوجوده.

 وإذا كانت الحرية هي شرط الحياة فلا يمكن تعريض هذه الأخيرة للخطر لأنها بفعلها ذاك تبيد ذاتها بذاتها، وهو ما ينبغي أن يسير عليه حق التربية ضمن القواعد الأخلاقية بما يتوافق مع وجود البشر، ولا بد من تقوية القصد الأخلاقي داخل كل شخص.

وتهدف العملية التربوية النموذجية إلى بناء متكامل للشخصية داخل كل طفل من خلال تربيته على:

1 – حسن تدبير استعماله حريته؛

2 – استقلاله الذاتي في كل أفعاله؛

3 – الانخراط في المجتمع بشكل يعطي لشخصه قيمة جوهرية أي أخلاقية وسياسية.

فاستعمال الحرية يتطلب تكويناً ثقافياً لمختلف القدرات الشخصية وعلى رأسها التفكير الذاتي المستقل القادر على التمييز بين الأشياء واتخاذ المواقف والسلوكات المنسجمة مع وجود الحرية وقوانينها، التي هي بالذات قوانين المواطنة داخل كل دولة، إضافة إلى القوانين الأخلاقية العامة التي تخص البشر ككل بغض النظر عن الدولة التي تقيم فيها، ما يمنح الإنسان كرامته كقيمة جوهرية وطنية وكونية في الآن.

فالأساس الأول للمواطنة يقوم على الحرية التي تتكامل وتتفاعل وتتداخل مع المساواة والعدالة والشراكة، فضلاً عن حق المشاركة من دون تمييز في تولي المناصب العليا بغض النظر عن العرق والدين والجنس واللون والرأي السياسي والأصل الاجتماعي.

 وكان الفكر الفلسفي ولا يزال يمثل مصدراً للمعرفة والخلْق والإبداع، وهو الأمر الذي يجعله محورياً في عملية التربية، التي هدفها تكوين الفرد تكويناً متكاملاً يأخذ في الاعتبار مكوناته العقلية والمعرفية والسلوكية والوجدانية لجعله على معرفة نظرياً وعملياً بحقوقه وحقوق الآخرين وبواجباته تجاه هذه الحقوق، وذلك هو رهان التربية بأبعادها الأربعة، وهي الذات في علاقتها بنفسها وأخلاقها، وفي ارتباطها بمجال المعرفة الخاصة أو بمجال العمل أو الوجود مع الآخرين.

[email protected]